02-يوليو-2016

عالم آخر ممكن (أتلانتيك برس)

المقال التالي ترجمة لمقال "جيمس تراب" في مجلة "فورين بوليسي" عن الوضع الجديد الذي تفرزه الاحتجاجات الضمنية في الدول الغربية ضد "العولمة".

___

أحد أكثر سمات البريكسيت سطوعًا هو الرفض الشديد للمصرفيين والاقتصاديين وزعماء الدول الغربيين الذين حذروا المصوتين ضد أخطار الانفصال

لقد وُلدت في عام 1954، وحتى الآن كنت لأقول إن أواخر الستينيات هي أكبر فترة اضطراب سياسي عشت خلالها. لكن رغم كل ما سببته حرب فيتنام والنضال من أجل الحقوق المدنية من تغييرٍ في الثقافة الأمريكية وإعادة تشكيل الأحزاب السياسية، فإن تلك العواصف عند استرجاعها في الذاكرة تبدو مثل الاهتزازات الطبيعية لنظامٍ سياسي مستقر نسبيا. العصر الحالي مختلف. انتفاضة مواطني اليوم في الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا قد تغير السياسة كما لم يغيرها شيء طوال حياتي.

في أواخر الستينيات، كانت النخب في حالةٍ من الفوضى، كما هم اليوم، لكن وقتها كانوا يهربون من أطفالٍ يتمردون ضد عالم آبائهم، اليوم تهرب النخب من آبائهم. أصبح التطرف تيارًا رئيسيًا. كان أحد أكثر سمات البريكسيت سطوعًا هو الرفض الشديد للمصرفيين والاقتصاديين وزعماء الدول الغربيين الذين حذروا المصوتين ضد أخطار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. اعتقد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أن المصوتين سوف يستجيبون للرأي شبه المجمع عليه من الخبراء؛ لا يظهر هذا إلا مدى خطأه في الحكم على مواطنيه.

اقرأ/ي أيضًا: الإمبريالية.. تاريخ مظلم ومتجدد

يمر الآن كلا الحزبين المحافظين والعمال في بريطانيا بأزمةٍ كبيرة. لقد واجه البريطانيون يوم حسابهم، بينما يقترب ذلك الخاص بالأمريكيين. إذا هُزم دونالد ترامب، هزيمةً ساحقة، اغفروا لي تفاؤلي المتهور، لكن أعتقد أن هذا هو ما سيحدث، فإن الحزب الجمهوري قد يقاسي انقسامًا تاريخيًا بين قاعدته التي لا تعرف شيئًا* وطبقته القيادية القابعة في شارع كيه** وغرفة التجارة. ربما تواجه حكومة فرنسا الاشتراكية إخفاقًا مماثلًا في الانتخابات الرئاسية المقبلة: تشير استطلاعات الرأي إلى أن فرانسوا هولاند لن يصل حتى إلى الجولة الثانية من الانتخابات. تصرخ الأحزاب اليمينية في جميع أنحاء أوروبا مطالبةً بتصويتٍ على الخروج في بلدانها.

نعم، من المحتمل أن تطير جميع القطع السياسية في الهواء وتستقر مجددًا حيث كانت سابقًا، لكن نتيجة التصويت على خروج بريطانيا تظهر أن التغير الصادم لم يعد صادمًا بعد الآن. أين، إذن، قد تنتهي تلك القطع؟ تشير أوروبا بالفعل إلى اتجاهٍ واحد. في الكثير من أنحاء أوروبا، تتصدر أحزاب اليمين المتطرف القومية نتائج استطلاعات الرأي. حتى الآن، لم يحصل أحدها على أغلبية، رغم أن نوربرت هوفر، زعيم حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف، والذي يتاجر في الرمزية النازية، كان الشهر الماضي على بعد أنملة من الفوز بالانتخابات العامة ليصبح رئيسًا للبلاد.

قد تتجه الأحزاب الرئيسية من اليمين واليسار إلى توحيد قواها لإبعاد القوميين. حدث هذا بالفعل في السويد، حيث يشارك حزب ينتمي إلى يمين الوسط كشريك أقلية في حكومة يسار الوسط. إذا خسر اليساريون في فرنسا بالفعل الجولة الأولى، فإنه من شبه المؤكد أنهم سيدعمون الجمهوريين المحافظين ضد حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف.

ربما تستطيع تلك التحالفات غير الرسمية النجاة حتى تنتهي الحمى. لكن حتمية التعايش قد تقود أيضًا إلى اصطفافٍ حقيقي. يعني هذا أن أجزاءً من أحزاب يمين ويسار الوسط قد تنفصل لتشكل نوعًا مختلفًا من الوسط، يدافع عن البراجماتية والمعرفة التقنية والإدارة الفعالة وقدرة البشر على جعل العالم مكانًا أفضل ضد القوى الإيديولوجية التي تتجمع على كلا الجانبين. ليس من الصعب تخيل أن يفقد الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة -وربما حزب المحافظين البريطاني إذا أدى البريكسيت إلى وضعٍ شديد السوء- السيطرة على قواعد الحزبين القومية الغاضبة ليعيدا بناء أنفسهما كأحزاب الشارع الرئيسي المؤيدة للاستثمار كما كانا منذ جيلٍ مضى، قبل أن تأخذهم حماستهم الإيديولوجية إلى طريقٍ مسدود. قد يكون هذا بديلهما الوحيد للاندثار.

يُظهر البريكسيت وترامب كيف أخطأت النخب السياسية الحكم على عمق الغضب على القوى العالمية وبالتالي طلب أن يستعيد شخص ما بطريقة ما الوضع السابق

المشكلة، في الأساس، هي العولمة. يُظهر البريكسيت وترامب وحزب الجبهة الوطنية وما إلى ذلك كيف أخطأت النخب السياسية الحكم على عمق الغضب على القوى العالمية وبالتالي طلب أن يستعيد شخصٌ ما بطريقةٍ ما الوضع السابق. قد يبدو من الغريب أن يأتي رد الفعل اليوم بدلًا من الفترة التي أعقبت مباشرةً الأزمة الاقتصادية لعام 2008، لكن انحسار الأزمة قاد إلى شعورٍ جديد بالركود. مع آفاق عدم النمو في أوروبا والحد الأدنى من نمو الدخل في الولايات المتحدة، يتمرد الناخبون ضد آفاقهم القاتمة على المدى الطويل.

كما تعني العولمة الثقافة جنبًا إلى جنب مع الاقتصاد: يلوح كبار السن الذين يتلاشى عالمهم تحت سيلٍ من الألسن الأجنبية والاحتفالات متعددة الثقافات بقبضتهم في مواجهة النخب الكوزموبوليتانية. لقد كنت في بولندا مؤخرًا، حيث فاز حزبٌ يميني متطرف يتودد إلى القومية والتقاليد بالسلطة رغم أعوامٍ من الازدهار الذي لا يمكن إنكاره تحت حكم نظامٍ وسطي. يستخدم المؤيدون نفس الكلمات مرارًا وتكرارًا لشرح دوافعهم: "القيم والتقاليد". لقد صوتوا للهوية البولندية ضد حداثة أوروبا الغربية.

اقرأ/ي أيضًا: بندكت أندرسن و"جماعاته المتخيلة"

ربما ستعيد السياسة ترتيب نفسها حول محور العولمة، حيث سيكون الملوحون بقبضتهم في جانب والبراجماتيون في جانبٍ آخر. سوف يفوز القوميون بولاء البيض من الطبقة العاملة والمتوسطة الذين يرون أنفسهم مدافعين عن السيادة. سيضم الوسط الجديد المستفيدين من العولمة والفقراء وغير البيض والمواطنين الهامشيين الذين يدركون أن الاحتفاء بالهوية القومية يستبعدهم.

بالطبع، تحاول الأحزاب الرئيسية من اليمين واليسار الوصول إلى القوميين الغاضبين. أحيانًا يأخذ هذا هيئة الخنوع الفاضح، كما يحدث عندما يشجب نيكولا ساركوزي، الذي يسعى إلى استعادة رئاسة فرنسا، "طغيان الأقليات" ويستحضر ماضي "فرنسا الأبدية" الأبيض بالكامل. من اليسار، تخلت كلينتون عن ماضيها المؤيد للتجارة الحرة كي تجتذب أعضاء النقابات وآخرين يرغبون في حماية الحدود القومية ضد السوق العالمي. لكن اليسار واليمين يختلفان بشدة حول أفضل طريقة للتلطيف من تأثيرات العولمة، وكيفية التعامل مع التدفق الكبير للاجئين والمهاجرين، حتى أن تهديد التطرف قد لا يكون كافيًا لجعلهم ينضمون تحت لواء قضيةٍ مشتركة.

الانقسام الذي نراه يزداد أمامنا لا يتعلق فقط بالسياسة، وإنما بالواقع. فازت القوى الداعية إلى البريكسيت لأن الساسة الانتهازيين كانوا مستعدين لتلبية بارانويا المصوتين، حيث كذبوا عليهم بشأن مخاطر الهجرة وأثمان العضوية في الاتحاد الأوروبي.

 فازت القوى الداعية إلى البريكسيت لأن الساسة الانتهازيين كانوا مستعدين لتلبية بارانويا المصوتين

بدأ بعض هؤلاء الساسة في الاعتراف بأنهم كانوا مخطئين. وضع دونالد ترامب، بالطبع، معيارًا جديدًا للخداع وتلبية مخاوف المصوتين، سواء كانت بشأن الهجرة أو التجارة الخارجية أو أي شيء آخر يستطيع التفكير به. ألقى الحزب الجمهوري، الذي يذخر بالفعل بمنكري العلم ومنكري الواقع الاقتصادي، بنفسه لتبني رجلٍ يفبرك الحقائق التي يرغب الجهلة في تصديقها.

هل قلت "جهلة"؟ نعم فعلت. من الضروري أن نقول إن هناك أناسًا مضلَلين وأن مهمة القيادة هي إفاقتهم. هل هذا "نخبوي"؟ ربما، ربما أصبحنا نميل إلى الاحتفاء بأصالة جميع القناعات الشخصية حتى أصبح الاعتقاد في المنطق والخبرة ودروس التاريخ الآن نخبويًا. إذا كان ذلك كذلك، فإن فريق قبول الواقع يجب أن يكون مستعدًا لمواجهة فريق إنكار الواقع، ومساعديه من بين الذين يعرفون أفضل. إذا كان ذلك هو الاصطفاف المقبل، فينبغي علينا تبنيه.

* الذين لا يعرفون شيئًا Know Nothing هو الاسم الذي تعرف به حركة سياسية معادية للمهاجرين تحولت لاحقًا إلى حزبٍ سياسي ظهرت في الولايات المتحدة في منتصف أربعينيات القرن التاسع عشر.

** شارع كيه هو شارع رئيسي في العاصمة الأمريكية واشنطن يعرف بأنه مركز للعديد من مراكز الأبحاث وجماعات الضغط.

اقرأ/ي أيضًا:

هل حان دور فرنسا للخروج من الاتحاد الأوروبي؟

القفزة البريطانية إلى المجهول