25-مايو-2019

شهد حزب بهاراتيا جانتا تحولات عديدة (Getty)

منذ أن نجح حزب بهاراتيا جانتا بحيازة السلطة لأول مرة في الهند في منتصف التسعينات، بالتزامن مع أحداث حاسمة أخرى على غرار سقوط الاتحاد السوفييتي، شهدت البلاد تحولات عديدة، فيما بدا انقلابًا على السياسات الهندية التقليدية. وعلى الرغم من أن الحزب تبنى منذ البداية، مخاوف طائفية، واستند إلى سرديات على غرار محاربة الإرهاب والأقلية الإسلامية، والجار الباكستاني الخطير وجوديًا، فإنه كان ينشر رؤية اقتصادية لحل أزمات البلاد العميقة. مع هذا، فإن خطاب الحزب شهد تحولًا جذريًا في هذه الفترة، يؤثر بدوره على المخيال القومي الهندي إجمالًا، كما يوضح هذا المقال المترجم عن موقع "ذي واير" الهندي.


في أعقاب الفوز المظفر لحزب الشعب الهندي (بهاراتيا جاناتا) بالسلطة،  لفترة ثانية، بزعامة نارندرا مودي، ظهرت تحليلات لا حصر لها لأسباب هذا الفوز. إلا أننا وبعد تجاوزنا  الضجة التي أحاطت بهذا الحدث، ما زلنا لم نقترب من الإجابة. فليس هناك ما يدل على أن من صوتوا له استفادوا كثيرًا من الناحية الاقتصادية.

من الواضح أن الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء قد تزايدت في الهند. وتزايدت معها نسب البطالة كذلك، والمسكنات التي قدمتها الحكومة لهذه المشكلة، بالكاد تهدئ من وطأة الاضطرابات

ومما تجمع لدينا من بيانات، من الواضح أن الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء قد تزايدت في الهند. وتزايدت معها نسب البطالة كذلك، والمسكنات التي قدمتها الحكومة لهذه المشكلة، بالكاد تهدئ من وطأة الاضطرابات في الريف، وتظل البنية المالية الهندية في تدهور مستمر خلال السنوات الخمس الماضية، وتزايدت رؤوس الأموال الفاسدة المتحالفة مع السلطة.

اقرأ/ي أيضًا: الهند.. زينة، رقص وحشيش في عيد الاستقلال

في المقابل نجد لدى الأحزاب الأخرى وخصوصًا حزب المؤتمر، برامج تقدم الكثير مما يمكنه إعادة إحياء الاقتصاد في الهند، وبتركيز أكبر على نمو الناتج الإجمالي المحلي.

وإذا كان السعي للسلطة هو الهدف الجوهري من وجود أي حزب سياسي، فإن حزب الشعب الهندي، سعى لهذا الهدف دون هوادة وأظهر عزيمة لا تلين، مقارنة بحزب المؤتمر الذي كثيرًا ما اكتفى بالشعارات والتلميحات الأخلاقية. تبنى حزب الشعب الهندي استراتيجية انتخابية سخرها لتحقيق مسعاه، تتلخص في المراقبة المستمرة واللصيقة لتحركات المعارضة، والتركيز على مستوى الدوائر الانتخابية الصغيرة والتخطيط المحكم والتوسع في استخدام الإعلام ووسائل التواصل الأخرى.

كان الجميع شاهدًا على مستوى تنظيم حزب الشعب الهندي بكوادره المؤدلجين وموارده غير المحدودة. هذا إلى جانب سجل جهات رقابية معينة من بينها لجنة الانتخابات، الذي لم يكن على المستوى المطلوب دائمًا. وحقق رئيس الوزراء مودي، الذي بدا أكبر من حملة حزبه، تماسكًا ملحوظًا داخل التشكيل الانتخابي للحزب، وتلاحمًا مستمرًا مع الحشود المؤيدة له. لكن لدى الانتخابات البرلمانية الهندية لعام 2019 ما تخبرنا به أكثر من ذلك؟

إعادة اختراع القومية الهندية

واصل مودي هجومه الضاري على عائلة غاندي وميراث نهرو في حزب المؤتمر، خلال حملته الانتخابية، لكنه لم يفوت فرصة للتأكيد على التزامه تجاه الفقراء، وحافظ على اتساق مبادئه بين انتخابات عام 2014 والانتخابات الحالية، وحافظ على شعاره الذي يقول:  تعرضت الهند في السابق للاحتلال مرات عديدة، وحان وقت إظهار عظمتها.

هذه الدعوة القومية المزدانة بنظام من الرموز والشعارات، جلبت معها الدعوة للقضاء على الأعداء. وعادة ما تظل هوية هؤلاء الأعداء مجهولة، لإفساح المجال للحوار المحلي لتحديد هويتهم.

لكن خطاباته في هذه الدورة الانتخابية شهدت تركيزًا أقل على القومية المساواتية والشاملة، إلا في سياق الخصومة لاستهداف المعارضة أو  حين يكيل أهازيج المدح لمبادرات القطاع الاجتماعي الخاصة به. فقد صار يصور نفسه راعيًا لروح الهند الأصيلة.

واستدخل في خطابه على الدوام وكما يحلو له، عناصر منتقاة من فكر سوامي فيفيكاناندا وفيناياك دامودار سافاركار وراشتريا سوايامسيفاك سانغ، بدلًا من اتباع مواقفهم كاملة.

وفي نفس الوقت، دأب على تقويض التفوق البراهماني الهندوسي. فحضور منظمة RSS  في هذه الانتخابات كان خافتًا، مقارنة بالكوادر النشطة في حملته الذين كانوا من العاملين في حزب الشعب الهندي.

في انتخابات 2014، حصد حزب الشعب الهندي كثيرًا من أصوات الطبقات الدنيا. ومن الواضح أن مودي كان مدركًا لهذا الأمر. وجعل من نفسه أيقونة لهم حتى الآن. وفي كثير من المؤتمرات الانتخابية التي حضرها،  شبه مودي بالأفاتار بوروش، استلهامًا من التراث الشعبي عن القدوة والحاكم الرشيد. والآلهة الذين ذكروا في سياق هذه الانتخابات كانوا كريشنا وشيفا ولم ينل رام مندير إلا قليلًا من التركيز، رغم ورود اسمه في برنامج حزب الشعب الهندي.  

وما لبث مودي أن استغنى عن صيحة الحرب السابقة التي أوصلت حزبه إلى السلطة، وتخلى عن إرث الحرس القديم في الحزب من أمثال  لال كريشنا أدفاني. واستبدلهم بحليف جديد في هذه الانتخابات هو يوغي إديتياث، حاكم ولاية أوتار بارديش ومهراجا معبد جوراخناث، وهي طائفة متأثرة بعدد من المذاهب التعبدية والمتنسكة.

وشيئًا فشيئًا بدأت نسخة مودي من القومية الهندية وباستلهام نسخة سفاركار عن الهندوتافا، برسم  حدود فاصلة بين من ينضوون تحت لوائها بالكامل ومن تعدهم "الآخر" مثل المسلمين والمسيحيين.

وعلى الرغم من أن مودي توخى الحرص والحذر في رسم هذه الحدود، إلا أن آخرين ألقوا بهذا الحذر عرض الحائط، خصوصًا الكهنة الدينيون من أمثال أميت شاه ويوغي إديتياناث.

بالنسبة لأميت شاه، أصبح ترشيح براجيا ثاكور من بوبال (وهي شخص متهم بإثارة الفتنة الطائفية مع المسلمين) هو نوع من ممارسة الـ "ساتياغراها"، وهو سلاح من أسلحة المقاومة السلمية صممه المهاتما غاندي، يقوم على مبدأ المعاملة بالمثل.

وحشد مودي قضية الأمن القومي ضد باكستان باعتبارها مفرخة للإرهابيين، ووظف القضية كما وظفها الكثيرون من قبله، في داخل الهند وخارجها لحشد التأييد الشعبي. وحث أنصاره على ألا يفوتوا فرصة للتعريف بهذا العدو والإشارة إليه داخل الهند.

الآثار السياسية

يتميز النظام السياسي المعقد في الهند بالكثير من الضوابط والتوازنات، بحيث يصعب السيطرة عليه مرة واحدة. هناك الضوابط المؤسساتية مثل المعارضة البرلمانية، ومجلسين تشريعيين، والقضاء، والتوزيع الفيدرالي للسلطة وغيرها.

وعلى مستوى العملية السياسية، هناك نظام الأحزاب المعقد، والمنظمات المدنية والطائفية والعرقية والدينية. ووسائل إعلام مستقلة ومعتدة بذاتها، سواء الإلكترونية أو المطبوعة، الإنجليزية أو تلك التي تصدر باللغات المحلية. ثم هناك القوات المسلحة والتي برغم مهنيتها، أظهرت مرات عدة، امتلاكها للوعي السياسي.

ورغم صعوبة تجاوز أو تنحية كل هذه المؤسسات، بإمكان مودي توظيف عدد من القضايا والمواقف القومية الحساسة، إلى جانب سلطته ومكانته، لتعزيز ثقافة سياسية لا يمكن لهذه المؤسسات إلا الخضوع لها. وفي الساحة غير السياسية، بإمكانه بسهولة توظيف نفس القوى التي أوصلته للسلطة لتخطي المراقبة وفرض النظام. 

الاقتصاد

يظل الاقتصاد الهندي كما كان دائمًا، عالقًا تحت وطأة الأعراف التنظيمية والتراتيبية وسطوة النفوذ والروابط الطائفية. لا يمكننا تجاهل هذه الروابط، برغم بعض نضالات النقابات العمالية الشجاعة ومطالبات الفلاحين التي بدأ صداها يتردد في دوائر أوسع.

الكثير من هذه المطالبات سيعاد توجيهها في الأيام القادمة تحت مسميات تقوية الاقتصاد القومي والنمو. وبالتأكيد، لن تغيب المشاريع القومة الكبرى والمخططات الدعائية مثل MNREGA ومشروع الإسكان Awas Yojanas والمشاريع الزراعية وخطط التأمين والتي تستخدم لأغراض الدعاية واحتواء الجماهير.

اقرأ/ي أيضًا: مجاعة أوريسا.. حين تركت بريطانيا مليون هندي للجوع 

وقد وجدت الطبقة الوسطى الهندية في مودي البطل الذي انتظرته طويلًا. أما المعارضة في الهند فهي تدعو تارة لمعايير وإجراءات لدولة الرفاه، وتروج تارة لشعارات مشتقة من الفلسفة الليبرالية عن معاداة الاستبداد وحكم القانون والمؤسسات العامة والحريات المدنية والتعددية لمواجهة مودي وجذب الناخبين. وقد نجحوا بالفعل في نيل تأييد البعض، لكن الأغلبية الكبرى انحازت لمودي.

يتميز النظام السياسي المعقد في الهند بالكثير من الضوابط والتوازنات، بحيث يصعب السيطرة عليه مرة واحدة. هناك الضوابط المؤسساتية، ومجلسين تشريعيين، والقضاء، والتوزيع الفيدرالي للسلطة

 ربما حان الوقت لإعادة التفكير في الأسس التي تكوّن النظام الديمقراطي في مجتمع ما بعد كولونيالي ضخم ومتنوع المكونات والأطياف، والذي أصبح المستقبل فيه حبيسًا لرهانات الماضي.