26-فبراير-2017

يتابع صحفي اللغة استخدام اللغة أو إساءة استخدامها وتوظيفها (Getty)

صحافة اللغة حالة مفقودة في صحافتنا العربيّة المعاصرة، وبصحافة اللغة أقصد تلك الموادّ والكتابات الصحفيّة التي تهتم بتتبع حركة اللغة والألفاظ والتراكيب والعبارات والأمثال والشتائم في المجتمع، واستخدام اللغة أو استغلالها أو توظيفها، وسياسات اللغة في المجتمعات وهندستها، إضافة إلى ما يتعلق بأمر تعلّمها وتعليمها وحركة النشر والترجمة منها وإليها ومستوى تطور معاجمها العامّ منها والمتخصص، وصولًا إلى تحليل ونقد اللغة الصحفية المستخدمة في تغطية مواضيع أو أطياف معينة في المجتمع، مثل النظر في اللغة السائدة بين الصحفيين عند الحديث عن الأقليات الدينية أو العرقيّة أو اللاجئين أو عند بحث مواضيع ذات حساسيّة ما، في الدين أو الجنس أو السياسة، وغير ذلك من الظواهر المختلفة في مجال اللغة والتي يهتمّ الآخرون بمعرفة شيءٍ عنها.

 

قضيّة اللغات الأجنبيّة وتأثّر الأطفال والشباب بها في العالم العربي، هي قضية لا تزال بحاجة إلى المزيد من الاهتمام الصحفيّ الجاد

الصحفيّ المهتم باللغة معنيّ مثلًا بتتبّع مثل هذه الظواهر والحديث عنها وتسليط الضوء عليها في المجتمع في تقارير صحفيّة موجّهة للقارئ العاديّ والمختصّ، تستطيع أن تطلق حوارًا عنها في المجتمع الواقعي أو الافتراضي على شبكات التواصل الاجتماعيّ، وتخلق حالة من الوعي بالظواهر المختلفة التي تصفها وتحاول الوقوف عليها. 

اقرأ/ي أيضًا: نعي موقع عربي

ولعلّ أحد أبرز المواضيع التي "قتلت" صحفيًّا ويمكن أن يدرج في مجال صحافة اللغة، هو مسألة اللغات الأجنبيّة وتعليمها وتأثّر الأطفال والشباب بها، وخطر ذلك على الهويّة والثقافة ومستويات الإدراك والتحصيل العلمي والإبداع. وهي قضايا ما تزال تعاني من التسطيح في تناولها الصحفي، والاستيهامات الانطباعية العامّة غير القائمة على البيانات والعمل الاستقصائي، وتكاد لا تتجاوز الدوران في فلك بعض العموميات والأحكام المسبقة والعاطفية، دون الولوج في تفاصيل وجوانب دقيقة ويوميّة فيما يتعلق بهذه القضايا وأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية واللغوية والنفسية. 

وحين تجتمع الصحافة الجيّدة مع المعرفة اللغوية الكافية والمناسبة، فإنّ العمل الصحفيّ الناتج سيخدم الصحافة واللغة في آن معًا. التعامل مع اللغة وملاحظتها ليس أمرًا سهلًا بالضرورة، فاللغة أمرٌ مكتسب طبيعيًا ولا تتوفّر لكلّ ناطق باللغة الأدوات التي تساعده على تحليلها وملاحظة التغيّرات التي تطرأ على قواعدها أو مفرداتها، عدا عن القدرة على ملاحظات الجوانب الاجتماعيّة أو النفسيّة أو العصبيّة أو السياسية المرتبطة باللغة. فهذا الأمر يتطلّب معرفة بعلوم اللغة الحديثة، ولاسيما علم اللغة الاجتماعي والتخاطب. وهذا لا يستلزم بالضرورة أن يكون الصحفي متخصّصًا بهذه المجالات، وإن كان هذا ممكنًا، ولكن أن يكون ملمًّا على الأقل بالمفاهيم والأفكار الرئيسية التي تساعده على توليد الملاحظات التي تمكّنه في النهاية من كتابة المادّة الصحفيّة المشوقة والمفيدة في مجال اللغة.

صحفيّ اللغة يهتمّ بمتابعة استخدام اللغة أو إساءة استخدامها وتوظيفها على الصعيد العام؛ لدى السياسيين والشخصيّات العامة

صحفيّ اللغة كما أسلفنا يهتمّ بمتابعة استخدام اللغة أو إساءة استخدامها وتوظيفها على الصعيد العام؛ لدى السياسيين والشخصيّات العامة والمثقفين وعلى الصعيد الشعبيّ اليوميّ كذلك. خذ على سبيل المثال حالة ترامب مؤخرًا.

فمنذ أن قرّر الرجل الترشّح للانتخابات وحتّى اللحظة ظهرت العديد من التقارير الصحفيّة المتميّزة والمتتابعة عن أنماط استخدامه للغة، فيها تحليل لتكرار استخدامه لبعض العبارات والمفردات في حملاته الانتخابيّة ولاحقًا في خطاباته الرئاسيّة.

وهنالك تقارير ذات طبيعة استقصائيّة في صحافة اللغة باللغة الإنجليزية تحاول مثلًا استكشاف معرفة السياسيين باللغات أو اللهجات الأخرى وتحاول تتبّع أثر ذلك في خطاباتهم أو توجّهاتهم الشخصيّة والسياسيّة.

اقرأ/ي أيضًا: اللغة الصينية.. كيف تضع 5000 رمز على لوحة مفاتيح

يمكنك مثلًا أن تتابع الموضوعات التي تنشر على عمود جونسون، تيمّنًا بصامويل جونسون الذي وضع أوّل قاموس إنجليزيّ، في الإيكونوميست، والذي بدأ يظهر باستمرار منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، لتجد نوعيّة الموادّ الصحفيّة المعنيّة باللغة، عمومًا، الإنجليزية وغيرها من اللغات.

حين تجتمع الصحافة الجيّدة مع المعرفة اللغوية الكافية والمناسبة، فإنّ العمل الصحفيّ الناتج سيخدم الصحافة واللغة في آن معًا

الحالة في صحافة اللغة لا تختلف كثيرًا عن صحافة العلوم، أو الصحافة العلميّة، فهذان مجالان صحفيّان لم يستويا على عوديهما حتّى الآن في العالم العربي، ما يدعو للأسف ويثير الحسرة. فكليّات الصحافة لا تُعنى بتخريج صحفيين متخصّصين في مجالات معيّنة، كصحافة العلوم أو التقنية أو اللغة، ولا تعطي المؤسسات الصحفيّة هذه الجوانب الاعتبار الملائم الذي يشجّع الصحفيين على التخصّص بها والتركيز بشكل منهجي عليها، بما يكفي لنشوء ثقافة صحافية جديدة ومتخصصة ونماذج يمكن الاعتماد عليها لوضع معايير صحفية وتطويرها. 

فالصحافة العلميّة وصحافة اللغة عربيًّا لا تعدو عن كونها ممارسة للترجمة لما ينشر من موادّ علميّة شعبيّة في المواقع الأجنبية (الإنجليزية غالبًا). وهذا، رغم فائدته، لا يعدّ صحافة ولا يفي باحتياجات القارئ العربي، ولاسيّما أنّ الترجمات تختار عشوائيًا حسب الرائج في الصحف والمجلات الأجنبية، دون مراجعة مختصّة ودون هضمٍ معرفيّ ولغويّ، في ممارسة استهلاكية بحتة تفتقتر إلى التراكم والمنهجية والاستدامة المقصودة.

 

اقرأ/ي أيضًا:
اللغة الأمازيغية تدخل الجامعات الليبية
عن معجمنا المنتظر