05-أغسطس-2015

هل سيأتي يومُ يصير فيه هذا المشهد مألوفاً؟ (Getty)

أخيرًا، نشرت منظمة العفو الدولية تقريرًا تتحدث فيه عن التعذيب في أوكرانيا الشقيقة. تعذيب؟ يبدو هذا مألوفًا جدًا في العالم العربي. سيبدو غريبًا جدًا أن يستغرب شخص عربي حدوث تعذيب. الأشد إيلامًا أنه قد يبدو مضحكًا ومثيرًا للسخرية. مهلًا، ثمة ما هو أشد إيلامًا: لا لوم حتى على الذي يضحك! اللوم يقع على الذي يستغرب. والحديث هنا، بطبيعة الحال، ليس عن "الموقف الأخلاقي"، الرنّان منه أو القيّمي، إنما عن فعل الدهشة بحدِ ذاته، وما ينتج عن اعتراض. فالاعتراض، لا يمكن أن يولد عمومًا، إلا نتيجة صدمة. حتى أن اليقظة العربية، في ربيعها، كانت نتيجة سلسلة من الصدمات. لقد خرج الناس إلى الشوارع، عندما صار التعذيب أمرًا صادمًا، إلى جانب سلسلة طويلة من أدوات الدكتاتوريّة، التي ظنّوا لفترةٍ طويلة انها اعتيادية، أي أنها أشياء حتمية.

يتوجب التذكير أن اللبنانيين غرقوا في حربٍ طويلة مارسوا فيها أبشع أنواع القتل والجريمة

فلنكن واقعيين، السوري يعرف جيدًا معنى التعذيب. لم يقرأه في كتب مناضلين كفرج بيرقدار وياسين الحاج صالح، لقد عرفه وسمع عنه، وعلى الأرجح، عاين جزءًا منه، إما شخصيًّا، وإما عبر قريب أو صديق. المصري أيضًا، الذي عاش في زمن الديناصورات، من القائد الخالد جمال عبد الناصر، وصولًا إلى عبد الفتاح السيسي الذي يحاول الظهور بصورة الفكاهي دائمًا، ولا يوفق في ذلك، يعرف هو الآخر، معنى التعذيب. واللائحة تطول، بحيث أن البدع المستخدمة في هذا الإطار تتباين بين خرف القذافي وسماجة صدّام. لم يصبح القاشوش رمزًا، إلا لأن التنكيل صار حدثًا لافتًا، ما يعني أن رفضه صار ممكنًا.

قبل فترةٍ غير بعيدة، ظهر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر فيه أحد المحققين الأشاوس، وهو يتفنن في ركل أحد الموقوفين، متمادياً في إذلاله، وغير آبه بآلة التصوير. ولو حذفنا الصوت المرافق للصورة، وأزلنا عنوان الفيديو، لكانت بيروت، هي آخر ما يخطر في بال المشاهد. التعذيب في بيروت، مبدئيًّا، ما زال يعد حدثًا مثيرًا للريبة. غير أن هذا كله لا ينفع الآن، فقد تأكد الجميع من الواقعة، زمانًا ومكانًا، مع الاختلافات اللبنانيّة المتفلسفة، عن "توقيت" ظهور الفيديو، و"وطاوة المسرّبين". ذلك أن التوقيت سيبقى توقيتًا، أو موضع سؤالٍ عن ماهيته، في جميع الحالات، وذلك أن المسرّبين، مهما كانت أهدافهم دنيئة، يستحقون الثناء.

الاعتراض، لا يمكن أن يولد عمومًا، إلا نتيجة صدمة

ولكي لا يبدو الحديث عن سويسرا الشرق، أي لبنان، عاطفيًّا ومطعمًا بجرعات زائدة من وطنية لا تسمن من حرّية، وتغني من كرامة، يتوجب التذكير أن اللبنانيين، غرقوا قبل جيرانهم، في حربٍ طويلة، مارسوا فيها أبشع أنواع القتل والجريمة. والجميع في لبنان تقريباً، يعرف فصول حكاية "الذبح على الهوية". والقصد هنا، أن اللبنانيين ليسوا من شعوب الكاريبي، وتاليًا، ليس من حقهم استغراب العنف. ولكن طالما أنهم لم يبدو اعتراضًا كافيًا على الفيديو، فهذا ينزع منهم حق الاستغراب نهائيًّا. يمكن كتابة الكثير عن ذلك الفيديو الكريه. الرجل الذي يُضرَب بلا توقف، الأزمة السيكولوجّية للمحقق الذي يفرغ شحنات وافرة من الغِل، محاولات نشر سجل الموقوف على مواقع التواصل الاجتماعي، وأشياء أخرى كثيرة. يمكن أيضًا الحديث عن الحرج الذي امتصه وزير الداخلية فورًا، في ظل الحديث عن "مؤامرة" ضدّه، وعن التوظيف المذهبي للحدث بأبعادهِ المذهبية في الأصل، من وزير العدل. يمكن قول أي شيء في لبنان، غير أن السؤال المُفزع الذي لن يجرؤ أحد على طرحه: هل سيأتي يومُ يصير فيه هذا المشهد مألوفًا؟

أخيرًا، أظهر تحقيق أجرته منظمة العفو الدولية أن القوات الأوكرانية والانفصاليين الموالين لروسيا يمارسون التعذيب. يضربون الموقوفين ضربًا مبرحًا، ويصعقونهم بالكهرباء. وأعدموا منهم تعسفًا. لكن التعذيب في أوكرانيا، لن يلفت شعبًا معذبًا حتى النخاع. في لبنان، غالبًا ما يحيل الحديث عن أوكرانيا، إلى جملة شهيرة لأمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، في أحد خطاباته الشهيرة: لبنان ليس أوكرانيا. تقريبًا بات الجميع يتفق على أنها جملة، في زمانها ومكانها، كانت خاطئة، في جميع المعايير. الأسوأ، أن لبنان لم يعد سويسرا أيضًا، وهذا منذ زمن بعيد. هذا بفضلِ كثيرين، والحمد لله!