06-يونيو-2019

غلاف الكتاب

يُمهّد ميشيل فييفيوركا لكتاب بيير كونيسا "صنع العدو، أو كيف تقتل بضمير مرتاح" بوصفه كتابًا صادمًا ولاذعًا، حيث يُعتبر بيير كونيسا أحد أولئك الذين نفذوا لما هو وراء الظاهرة، فمن خلال مراكمته لأدوات تحليلية اكتسبها خلال اشتغاله في الميادين الاستراتيجية والأكاديمية، استطاع أن يُفكك البنى الكلاسيكية والتفسيرات السطحية، فهو يعرف تمامًا عمّا يتحدث. وتُثير التحولات المتسارعة اهتمام الأوساط السياسية والأكاديمية في العالم، فقد ركّز عدد كبير من الباحثين على دراسة الحرب وانعكاساتها، حيث انصبت مختلف الكتابات على توصيف الحرب وآلياتها، وعلى تحديد مختلف الأطراف المتنازعة وأسباب تنازعها، إلا أن قصورًا شاب الأدبيات من حيث عدم قدرتها على تناول مفهوم العدو بحد ذاته، من حيث ظهوره كفكرة، وطريقة بنائه، وصولًا إلى إقحامه في أعمال عنف وقمع وحرب.

العدو عبارة عن عملية بناء؛ فحين توصلنا العلاقة الاستراتيجية إلى الحرب، فإنها تؤلف مسارًا جدليًا يتضمن فعل الطرف الأول وصورته، وتؤثر في فعل الطرف الثاني وصورته

ويأتي كتاب "صنع العدو، أو كيف تقتل بضمير مرتاح" لمؤلفه بيير كونيسا، وهو باحث أكاديمي فرنسي ومتخصص في الشؤون الاستراتيجية الدولية، ومسؤول سابق في وزارة الدفاع الفرنسية ليستخدم في هذا المؤلف نموذج جديد لفهم طبيعة التحولات، ولتحليل طريقة نشوء العدو، وكيف يتم بناء العدو كمُتخيَّل، وكيف يُصبح العنف أداة مشروعة ومقبولة ضد هذا العدو. وينطلق كونيسا من افتراض أساسي يُحدده في مقدمة كتابه وهي أن "العدو هو عبارة عن عملية بناء؛ فحين توصلنا العلاقة الاستراتيجية إلى الحرب، فإنها تؤلف مسارًا جدليًا يتضمن فعل الطرف الأول وصورته، وتؤثر في فعل الطرف الثاني وصورته". ولا يزعم كونيسا أن جميع التهديدات تقع ضمن إطار البنية، أو أن الأخطار كلها مركبّة، وإنما ينبغي التمييز بين كل حالة وأخرى. وتنبع أهمية هذا الكتاب من كونه يكشف عن آليات صُنع العدو وبنائه، ما يُمكِّن بالتالي من معرفة أسباب النزاع في مراحلها الأولية، ومحاولة تحجيمها وتقليصها.

اقرأ/ي أيضًا: في راهنية مشروع عزمي بشارة عربيًا

من خلال عنوان يستحوذ على الانتباه، يُقدم لنا كونيسا كتابه الذي يقع في ثلاثة أقسام رئيسية، يندرج تحت كل منها عدد من الفصول التي يصل مُجملها إلى سبع عشرة فصل. والواقع أن قراءة كتاب كونيسا تجعل القارئ الذي ينطلق من أحكام مُسبقة أن يغير رأيه، فيستعيد كونيسا مجمل الحوادث البارزة التي وقعت في العالم، من خلال إثارته أسئلة مشروعة حول مقاربات الحرب والسلم، وتقديم نقد حولها، واستعراض ما هو أقرب إلى الواقع السياسي والعسكري. كما تُمكننا القراءة المتأنية لكونيسا من الوقوف عند بعض الخُلاصات الأساسية التي تساعدنا في فهم طبيعة بناء العدو، وكيفية امتلاك منهج لقراءته اعتمادًا على مقاربات جديدة.

صناعة العدو

"هل العدو ضرورة؟"، يفتتح كونيسا القسم الأول من كتابه بهذا التساؤل، مُحاولًا الإجابة عليه من خلال استعراض ما يقول حول ذلك كل من المنظّرين وعُلماء السياسية، والحقوقيين، وعُلماء المجتمع، والاستراتيجيين. ويجد كونيسا أن النظريات السياسية، كنظريات العقد الاجتماعي التي تهتم بالطبيعة البشرية والحالة الطبيعية عند البشر، مثل نظرية هوبز الذي يرى أن الحرب سِمَتها، بينما يعتقد روسو أن العدو يظهر ظرفيًّا وقت الحروب بين الدول، وليس في الحالة الطبيعية لم تُقدِّم توصيفًا للعدو، كما أن كلًّا من الفكر الماركسي والفكر الاستراتيجي اهتما بموضوع الحرب، وليس بموضوع العدو، فعلى الرغم من أن الماركسيين حدّدوا الطبقة البرجوازية كعدو، وأعلنوا حربًا أهلية شاملة ضدها، إلا أنهم أغفلوا التركيز على جوانب أخرى من التحليل، كحروب التحرر من الاستعمار، بينما اهتم الفكر الاستراتيجي العسكري بالسمات البنيوية للعدو بعد أن يتم تحديده، إلا أنهم لم يقدموا شرحًا لكيفية تحديد مجتمع ما لأعدائه، كما حصروا تحليلهم ضمن إطار النزاعات السياسية بين الدول. ويتطرق كونيسا كذلك إلى القانون الدولي، فيجد أنه قاصر عن تقديم تفسير لصناعة العدو، نظرًا لتركيزه على الحرب وتعريفها قانونيًّا، ووضع العدو في ظل هذه الحرب.

"العدو خيار وليس مُعطى من المعطيات"، و"العدو خيار سياسي". تنُّم هاتان الجملتان لكونيسا عن قراءة بنيوية للآلية التي يتحدد بها العدو، وبالتالي فالعدو، تبعًا لهذه الرؤية، يتشكّل وفقًا للضرورة والحاجة، ويُصنع بطريقة هيكلية وبنيوية، وليس وفقًا لواقع مادي ومُعطيات تُحتِّم ظهوره. وفي أساس هذه المُعضلة تكمن أهمية تعريف العدو بتعريف اجتماعي، ولذا فإن تحليل صناعة العدو يقتضي تحليلًا اجتماعيًا، حيث إن العدو "يُلبي حاجة اجتماعية، وهو جزء من مُتخيَّل جمعي خاص بكل جماعة. إنه "أنا آخري" يجب أن نجعله غيريًّا ونلونه بالأسود ونجعله مُهدِّدًا كي يبدو استخدام العنف شرعيًا". وبعبارات أخرى، فإن محاولات شيطنة الآخر والسعي لإنتاج صورة سلبية حاقدة تجاهه، وتصويره على أنه مُهدِّد لأمن الـ"أنا" الجمعية ووحدتها، هي ما تجعله عدوًا، وهي كذلك ما تبرر توظيف آليات العنف ضده، فالعنف هو ما سيؤدي إلى بناء الوحدة والهوية القومية، فيُصبح العدو هنا عاملًا لتوطيد رابطة الجماعة. وبالإضافة لما سبق، فإن العدو يظهر في المجتمع لحاجة هذا المجتمع إلى إسناد مخاوفه وآلامه إلى كيان آخر، ومن هنا يكون يأتي العدو كإجابة، و"كمهدئ للقلق الاجتماعي". ويوّلد الخوف من عنف مُضخَّم عنفًا أكبر، يُبرر بدوره العنف المقابل"، ومن هنا فإن محاربة العدو – الآخر المُختلف – بالأدوات العنيفة يُصبح أمرًا شرعيًا، فهو كالقنبلة الموقوتة التي ينبغي تعطيلها قبل أن تنفجر، كما تُصبح الحرب ضده "حربًا عادلةً"، وهي ما تحدّث عنها كل من كارل شميت وليو شتراوس في مفهوم "الحرب الاستباقية"، فهي حرب عادلة لها شرطان: المصلحة العامة – التي هي بالأساس مصلحة خاصة يتم تعميمها، والدولة المارقة – أي الآخر العدواني الذي يتحتم الهجوم عليه.

محاولات شيطنة الآخر والسعي لإنتاج صورة سلبية حاقدة تجاهه، وتصويره على أنه مُهدِّد لأمن الـ"أنا" الجمعية ووحدتها، هي ما تجعله عدوًا

ولكن، كيف تتم صياغة النظرة العامة إزاء قضية ما؟ يُجيب كونيسا عن هذا التساؤل مؤكدًا أن صناعة العدو، والحرب ضده، هي شأن عام، من هنا تنبع أهمية إعداد العقول العامة للموافقة الجماعية على اختيار العدو. ويتتّبع كونيسا الآلية السوسيولوجية التي تقوم على تحديد العدو وصناعته، فيدرس المجمع العسكري-الثقافي، متمثلًا أولًا بمراكز الأبحاث والتفكير، والتي تنبع حاجتها من أهمية تعلُّم كيف يُفكر الآخر، وتأسيس شبكات أيديولوجية مؤثرة تُشرعن العُنف ضد هذا الآخر وتنشره على نطاق واسع، وثانيًا بأجهزة الاستخبارات، التي تتظاهر بالمعرفة المطلقة، والتي تمتلك القدرة على تقديم تقارير وبيانات دون حاجة إلى تفسيرها وتبريرها، وبالتالي لا تتعرض للمساءلة حول مصادرها، ما يمنحها امتياز الكذب. ويجد كونيسا كذلك إجابةً على سؤاله لدى الآليات السوسيولوجية غير الرسمية، أو ما يسمّيهم بالميثولوجيين، وهم لاعبون اجتماعيون وسياسيون، كالمؤرخين والجغرافيين، ورجال الدين، والمثقفين، والصحافيين، ورجال السياسة، يؤدون دورًا أساسيًّا في صياغة الهوية الجماعية عن طريق إعادة تدويرهم لقضايا تاريخية واجتماعية أنتجت في وقت ما آلامًا ومصالح جماعية.

اقرأ/ي أيضًا: خيوط العُنف اللامرئية.. مُقاربة سلافوي جيجك

وفي هذه البانوراما التحليلية، يبرز معطى آخر هو خطاب صنع العدو، الخطاب المتماسك الذي يستند إلى قواعد تُشرعن ازدواجية المعايير، وتُركز على تنمية الإحساس الخطر من الآخر، ويُبنى على ثلاث معايير أساسية بحسب كونيسا: أولًا، إظهار الطابع الجيوسياسي للخطر، فكل مكان اليوم يُمثِّل أهمية استراتيجية ينبغي الحفاظ عليه وإبعاد التهديدات من حولها. ثانيًا، تحديد تهديد يُمكن تصديقه، حتى يتسنى توفير تغطية إعلامية تعمل على نشر القلق والمخاوف، والحديث بطريقة مُبهمة تُكرس من حماقة الإنسان عند إقدامه على التفسير. وثالثًا، اتباع أيديولوجية "الكيل مكيالين"، فالخطاب يسعى لفرض نظام من القيم يُعتقد بأن تطبيقها يضمن السلام الدولي، بينما ينفي صفة الأهلية عن الآخر وأفعاله، وهو على حد تعبير كونيسا "ازدواجية معايير".

العدو مُهجّن من حيث تصنيفه

لا يُمكن الحديث عن تصنيف أوحد لعدو واحد بالنسبة لكونيسا، حيث ينطبق عليه كثير من التصنيفات والتفسيرات المُعقدة، إلا أنه وبمقتضى التوضيح، يقف كونيسا على ثمان من الأوجُه التي يُمكن أن يتخذها العدو. ويتبع كونيسا في هذا الفصل نوع من التحليل المعياري يرتكز على فكرة مؤداها أن العدو يختلف بحسب الحالة وقواعد النزاع، ويُعالج كونيسا أولًا مسألة العدو الحدودي، فيتطرق لعملية ترسيم الحدود التي يُمكن أن تنتج نزاعات ثنائية، لتضمُّنها على مبدأين متناقضين هما السيادة، وحق تقرير المصير، بالإضافة إلى أنها تتخذ شكلًا عدوانيًا، كون القُرب الجغرافي يُولِّد شعورًا بالتهديد، تغذيه فكرة الانتقام والثأر، وذاكرة النزاع الجمعية، والخطابات القومية العدوانية، والرموز التاريخية التي يتم تكريس قدسيتها في المدارس والأدب، والتي تبقى برّاقة في أحاديث المؤرخين والجغرافيين والمُقاتلين.

ويتطرق كونيسا للعدو المنافس على الصعيد العالمي، والذي كان سائدًا في حقبة الاستعمار والإمبريالية، فالقاعدة الأيديولوجية هنا هي التأكيد على قوّة قومية من المُحتّم أنها ستسيطر على العالم، وأن هذه القوة يجب أن تُعرقل من تقدُّم المنافس الإمبريالية الآخر. وتستخدم الإمبريالية أداةً مهمةً للغزو، وهي البروباغندا، أو القوة الناعمة، بالإضافة إلى المثقفين والسياسيين والفنانين الذين يقومون ببث القيم الحضارية التي يعتقدون بأنها تتفوق على قيم المنافس الآخر. وتعتبر المؤتمرات الدولية قدّاس تقسيم العالم بين القوى المتنافسة، وهي احتفال بما يتمخض عن لعبة توازن القوى. كما أن سباق التسلُّح هو أحد أشكال التنافس العالمي.

أما في الحروب الأهلية، فيرى كونيسا أن العدو حميمي، وتكون آلية تحديد العدو فيها، والتي تقوم بشرعنة العنف، أكثر شدّة مما هي عليه في حروب أخرى. ويُحدد العدو في هذه الحالة عن طريق العائلات، ورجال الدين، والمثقفين، الذين يلعبون دورًا في تعبئة المجتمع المتحارب، وليس عن طريق المؤسسات الرسمية كالجيش والاستراتيجيين. ويقرّ كونيسا أنه وعلى الرغم من محاولة إنكار تسمية الحرب الأهلية بحرب، إلا أنها عمليًا "نزاع ضد الـ هم في مواجهة الـ نحن في فضاء مُغلق، مع العلم أن الفريقين متشابهان". وتُصوَّر عملية إبراز الهوية بأنها "تصرف استفزازي مُتعمّد في مراحله الأوليّة، حيث تتحوّل من عُنف اجتماعي إلى عنف حربي.

ويُحلل كونيسا شكلًا آخر من أشكال عدو، وهو ذاك الذي يكون بين المُحتل، والخاضع للاحتلال – الذي يُوصف غالبًا بالبربري من قبل المُحتّل. إن عملية بناء العدو البربري هذا يرتكز على شعور مُلازم لدى المُحتل بأنه في "حرب خفيّة"، وبالتالي يحتاج المُحتل دائمًا إلى إبراز قوّته، وتحقير أي محاولات من قبل الآخر البربري وإخمادها، بوصفها عصيانًا، وأحيانًا عملًا إرهابيًا، وهي طريقة تعمد إلى إقصاء الآخر عن "مركزية مُتخيَّلة" من قبل المُحتل، وهو ما يمنح العنف شرعيته. ويتماهى العنف بين كونه قمعًا أو باردًا، وهو مُبرر بكونه فعلًا حضاريًا لفرض السلم، من وجهة نظر المُحتل طبعًا. ويستعرض كونيسا شكل العدو الخفي، وهو أسوأ من عدو نراه، فهو يُقدِّم إجابة لجميع التساؤلات المطروحة في الأوقات الحرجة، ويُمكن أن يُعزى إليه المخاوف الاجتماعية غير الملموسة، كما أنه يُمكن أن يُحرِّك انفجارات جماهيرية واسعة في أي وقت. ووفقًا لنظرية المؤامرة، فإن ما يتم صياغته بدايةً هو النتيجة، ثم يتم التوسع إلى مجموعة من الحجج الفرعية تُدلل على هذه النتيجة.

العدو الإعلامي ما هو يُميِّز الحقبة الحالية منذ انتهاء الحرب الباردة، فالإعلام يقوم بشكل أساسي بـ"تدويل العدو"

ومن ناحية أخرى، يبرز العدو المُختلف أيديولوجيًا، ويندرج تحت هذا النوع بحسب كونيسا، العدو المُختلف دينيًا، فالأيديولوجيا "مُعتقد مُغلق"، وهي تمنح مجموعة ما تعتقد بأنها "مُختارة" شعورًا بامتلاك اليقين والحقيقة، وتُشرعن بالتالي عنصريةً تجاه الآخر الذي يُمثِّل الشر المُطلق، وتُصبح الحرب عملية للتخلص من هذا الشر، والعنف ضده فعل نبيل وتطهيري.

اقرأ/ي أيضًا: هايدغر في الفكر العربي

أما العدو المفهومي عند كونيسا، فهو ذاك الذي ابتكرته الدبلوماسية الأمريكية أُحادية الجانب، ويكون العدو في هذا السياق مُصمَمًا على قياس القوّة الأمريكية، بناءً على ما هو خطر بتقديرها. والقوّة الأمريكية ترتكز على أهليتها لإنجاز مهام باستعمال القوّة، بالإضافة لتأكيدها على أهمية عدم المساس بالمبادئ الغربية. ومن هنا، فإن الحرب المفهومية تنبع من "البراديغم العالمي الأوحد لتحديد العدو". ويعتقد كونيسا أن العدو الإعلامي ما هو يُميِّز الحقبة الحالية منذ انتهاء الحرب الباردة، فالإعلام يقوم بشكل أساسي بـ "تدويل العدو"، أي بجذب انتباه المجتمع الغربي نحوه، وهو الذي تختاره وسائل الإعلام لتُبدّيه عن ظاهرة أخرى، ونفهم هنا أنه عدو انتقائي، يُحدَّد من خلال صور الضحايا والدماء، ما يُثير انفعالًا إزاء العدو وتنديدًا بأفعاله. وتلعب الحُجج المتواترة والموجهة والتي تركز عليها وسائل الإعلام دورًا في تعبئة الرأي العام إزاء شيطنة العدو على أساس أخلاقي وقيمي.

جهودُ التخلُّص من العدو تذهب سُدىً على الأغلب

تُمثِّل بؤرة الأهداف التي تسعى إليها الأطراف المتصارعة، تفكيك العدو والتخلص منه. ويروم كونيسا في هذا المبحث، مستحضرًا هذا الجدل الذي لا يتوقف، أن يؤكد على فوضوية المساعي نحو تفكيك العدو، أي محاولات تحييده والتخلص منه، وهو أمر بالغ الصعوبة والتعقيد وينطوي على تحديات كبيرة. ويعتقد كونيسا أن أول طرق تفتيت العدو هي الاعتراف بالمسؤولية والتكفير عن الذنب، من خلال الاعتذارات المُعلنة على سبيل المثال، أو مُعاهدات الصُلح، أو تغيير اللهجة الخطابية، والتسويات الحدودية. وأحد التحديات التي تنبثق عن المُصالحة هنا هي تجاوز الذكريات التي تم بناؤها مسبقًا. بالإضافة لما سبق يُمكن الحديث عن النسيان، وتخلِّي أحد الأطراف عن انتهاج العنف، والصفح، كما يتحدث كونيسا بالتفصيل عن العدالة بنوعيها: التصالحية والانتقالية، إلا أن عديدًا من المشكلات برزت في إطار هذه الآليات، منها صعوبة المواجهة بين طرفي الصراع – الضحية والجلاد، ومنها صعوبة إعادة دمج الميليشيات التي كانت منخرطة في حروب عصابات، وغيرها. ويرى كونيسا أن حتى مفهوم العدالة هذا يُحصر في كونه "عدالة المنتصر"، أي يحدد المنتصر المتهمين ويختار العفو عنهم أم عدم العفو. ويؤكد كونيسا على سهولة شن الحروب، وأن الحرب، بما تنطوي عليه من آليات عنف وأدوات قمع، ستبقى دائمًا الخيار المُتاح أمام السلوك البشري ومحركه، فالحرب بالنسبة إلى كونيسا "مرض، يُمكن معالجة أسبابه، لكنه يُمكن أن يظهر دائمًا من جديد وفق محركات غير متوقعة".

حول هذا الكتاب

يتميز الكتاب بثرائه المعرفي والتحليلي، وبغزارة الأمثلة والوقائع التي تقدّم بها كاتبه للتدليل على حججه الأساسية، وتنوُّعها، حيث لم يُكرِّس كتابه للحديث عن التجارب الغربية في صناعة العدو، بل وضع أمثلة من مختلف أنحاء العالم، وفككها، كما أنه أزال الغموض عن حقبة ما بعد الحرب الباردة، حيث إن الحرب الباردة خلّفت وراءها فراغًا أيديولوجيًا، وأدت إلى تشتت القوى السياسية في توجيه مخاوف مجتمعاتها وقلقها، واستشهد كونيسا في ذلك بمقولة ألكسندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي لميخائيل غورباتشوف: "سنُقدّم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو!"، إلا أنَّه يؤخذ على الكاتب السرد التاريخي الكثيف، وإسهابه في التفاصيل، ما شوّه بعض النقاط الرئيسية وحوَّرها عن بوصلتها. كما يفتح الكتاب أبوابًا جديدة لفهم الميل نحو الحروب والقتال، والعنف والقمع، وكان حُريٌ بكونيسا أن يدرس النزعات النفسية الجماهيرية التي تجعل من الحرب أداةً ناجعة، من خلال ما ناقشه من آليات تضخيم العدو، واستساغة القضاء عليه، من خلال بلورة فكرة القلق الاجتماعي، وكيف يُصبح الخوف هاجسًا لتحقيق الأمن لدى الشعوب، وكيف يتشكّل الوعي الجمعي لدى الشعوب، وكيف يُصبح مترسِّخًا لديها مُتخَّيل العدو.

كتاب "صنع العدو، أو كيف تقتل بضمير مرتاح" يدفعنا لأن نفكر في الأقاويل الجاهزة والظواهر الكُبرى التي تُشكِّل توجهاتنا اليوم

وعلى الرغم من تميُّز الأسلوب السردي الذي يعتمده كونيسا في كتابه، والذي يجعل المادة حية لا تقل عن أية مادة بحثية معروفة، حيث يقترب صاحبها من أن يكون سوسيولوجيًا، دون أن يخضع نفسه لقواعد البحث في هذا الحقل، إلا أن كونيسا، وعلى الرغم من مناصرته لقضية عادلة، إلا أنه يعتمد على لغة جزم تتسم بفوقيّتها، والتي أدت إلى اتباعه طريقة استفزازية في توجيه اللوم.

اقرأ/ي أيضًا: يوميات أكرم زعيتر: سنوات الأزمة 1967 - 1970

ويُمكن القول إن كتاب كونيسا يدفعنا لأن نفكر في الأقاويل الجاهزة والظواهر الكُبرى التي تُشكِّل توجهاتنا اليوم، فهو كتاب محيط وشامل، يستحضر البديهيات الملائمة، ليفككها ويكشف عن مستويات مُبطنة لما لُفت النظر إليها لولا هذا الكتاب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المركز العربي: 4 إصدارات فكرية جديدة

4 كتب جديدة من إصدارات "المركز العربي"