28-يناير-2021

كاريكاتير لـ توماس/ إيطاليا

قُرئت الرّوايات التي تناولت الدكتاتوريات في أمريكا اللاتينية بشكلٍ واسعٍ في اللّغة العربيّة، ولطالما شعر قارئها بالعربية أنّها تصوير لما يحدث في بلاده، فالمستبد يتحكّم بشؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، بتعبير عبد الرحمن الكواكبي، السبّاق الأهم والأحذق في تشخيص طبائع الاستبداد والمستبد: "يضع كعب رجله على أفواه الملايين يسدها عن النطق بالحق والتداعي بمطالبته".

 قلما يقرأ القارئ رواية عربية عن دكتاتور ممن عايش بطشهم وذاق ويلات ترويعهم وتنكيلهم بالعباد

ما من فارق جوهري بين عالمي القارئ والنصوص سوى في اختلاف رنين أسماء الأشخاص والأمكنة، أما العسف فهو يعرفه جيدًا، سواء قام به عسكر جمهوريون أو ملوك: ترويع وإرهاب ومجازر، نهب ومص لدماء البشر والحجر، وإن جاء عطاء ما اتخذ شكل سجن أو فرع مخابرات جديد.

 اقرأ/ي أيضًا: صورة الدكتاتور

مع ذلك قلما يقرأ القارئ رواية عربية عن دكتاتور ممن عايش بطشهم وذاق ويلات ترويعهم وتنكيلهم بالعباد، تكميمًا للأفواه في الفضاء العام وسحقًا للأجساد في الأقبية المظلمة، ولعل روايات كـ"شرق المتوسط" التي تناولت المؤسسة القمعية بصورة مقربّة، ولاحقًا رواية "القوقعة" التي أكدت على قذارة ووحشية هذه المؤسسة التي تجلّت في أبشع صورها في سجن تدمر السوري، أو الأعمال الأدبية والفنية الأخرى التي تناولت الاستبداد من موقع رمزي كمسرحيات سعد الله ونوس، وكذلك الحال مع رواية مثل "عو" لإبراهيم نصر الله و"بلاد القائد" لعلي المقري، إلا أن كل ما يقع في هذا المجال هو أدب عن الدكتاتورية، أو روايات دكتاتورية، وليس أدبًا عن الدكتاتور، أو روايات ديكتاتور، وبالتالي لم تظهر حركة أدبيّة على هذا الصعيد في العربيّة حتى الآن، وإذا ما وجدت بعض النماذج فإن الفارق الذي صنعه أدباء أمريكا اللاتينية هو أنهم كتبوا في هذه القضية ليساهموا في تشكيل وعي مضاد للدكتاتوريين.

ما حدث في أمريكا اللاتينية، أختنا غير الشّقيقة سياسيًّا واجتماعيًّا، بدأ بلقاء بين الروائيين المكسيكي كاروس فوينتس والبيروفي ماريو بارغاس يوسا حين التقيا في لندن خريف 1967، كما يروي ذلك فوينتس في مقال له. كلٌّ من الكاتبين كان قد قرأ بإعجاب كتاب "قصص عن الحرب الأهلية الأمريكية"، وخطر لهما إنجاز كتاب مشابه عن أمريكا اللاتينية. وفعلًا قاما بدعوة دزينة من زملائهما من كتاب قارتهما لكتابة رواية قصيرة على ألّا تتجاوز الخمسين صفحةً، تكون مكرسةً لـ"الطاغية الوطني المفضّل" لدى المؤلف، وسيكون اسم الكتاب "آباء الأوطان". الفكرة راقت صاحب دار "غاليمار" الفرنسية الذي تحوّل إلى عرّاب للمشروع قبل أن يفشل.

المجموعة التي دعيت ضمت كلًا من الأرجنتيني خوليو كولتثار، والفنزويلي ميغيل أوتيروسيلفا، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، والكوبي إليخو كاربنتير، والدومنيكاني خوان بوش.. وآخرين.

فشل المشروع إلّا أن ثلاثة من الكتاب قرّروا المواصلة قدمًا لإنهاء رواياتهم، فكتب كاربنتير "طلب لجوء" 1972، وأوغسطو روا باستوس كتب "أنا الأعلى" 1974 عن الدكتاتور فرانسيا وهو مدني كان يعمل طبيبًا، وماركيز "خريف البطريرك" 1975 التي استلهمت الدكتاتور الإسباني فرانكو مع بهارات ماركيزية محلية لتكون الرواية لاتينية بامتياز. أما يوسا فأخذ منذ ذلك الحين بنشر سلسلة من الروايات التي تتناول الدكتاتورية حتى وصل إلى القمّة مع "حفلة التيس" التي صدرت عام 2000 عن دكتاتور الدومنيكان تروخيو، وهي رواية مكتوبة بواقعية مطلقة.

من هذا كلّه أريد أن أتساءل هل سنقرأ يومًا روايات عن حافظ الأسد وصدام حسين وبن علي والقذافي.. وسواهم؟

تخلع الكتابة الروائية عن الطاغية الأقنعةَ التي تحوّله من ذلك كائن النورانيّ الذي يسعى لإيهام الشعب بأنه متجلٍّ فيه إلى مجرد إنسان عادي ثمة قابلية لأن يُزال عن سدة الحكم

تخلع الكتابة الروائية عن الطاغية الأقنعةَ التي يُحصّن بها نفسه طوال الوقت، والتي تحوّله من ذلك الكائن النورانيّ الذي يسعى لإيهام الشعب بأنه متجلٍّ فيه إلى مجرد إنسان عادي ثمة قابلية لأن يُزال عن سدة الحكم. ولا شك أن قوة السردية الروائية، وغيرها من الأعمال الفنية، ليست سوى جبهة مضادة لإعلام يريد إظهارهم أبطالًا أسطوريين مُجلَّلين بصفات عظيمة مثل: النصر في الحروب ومحبة الناس الهائلة، هذا غير مبالغات بعض تلك الأجهزة التي وصلت إلى درجة جعل الحيوانات تحبّهم، كما فعلت الجداريات السوفييتية المخصصة لتقديس ستالين. تأتي الكتابة الروائية، ومعها السينما والمسرح والكاريكاتير، لكي تُحوّل ذلك الأب المثالي للشعب، والبطل الخارق أو نصف الإله، إلى مجرد شخص مهزوز بائس، همّه امتلاك السلطة لنقائص في نفسه وليس لأنه صاحب مشروع سياسي، وحيث تُمكننا الكتابة الروائية من فهم حجم الخديعة التي تفرّد بالحكم بسببها، ومقدار الدمار الذي جلبه فساده ونهبه في إدارته للبلاد، ستأتي الفنون الأخرى لتشد من أزر الرواية وتقضي على هالته كاملة بتحويله إلى أضحوكة.

 اقرأ/ي أيضًا: صدام حسين.. الدكتاتور الذي يأبى الموت

لا أدري كم رواية عراقية كُتبت عن صدام حسين، لكنّ كمية الكتب التوثيقية والمذكرات والبحوث التي تختص بسيرته، وباستجوابه وسجنه ومحاكمته، إضافة إلى مذكرات بعض أفراد أسرته (حفيدته) والشخصيات التي أحاطت به، ناهيك طبعًا عن الكتب التاريخية، السياسية والاجتماعية، عن العراق تحت حكمه، تمثّل ذخيرة هائلة للروائيين لكي يخوضوا في فهم هذا الرجل الذي استطاع أن يضيّع بلدًا.

الأمر نفسه بخصوص القذافي، فسيرته وفترته تستقطب الباحثين، وهناك العديد من الكتب في مجالات مختلفة تفيد الروائي، بل إن هناك رواية كتبها ياسمينة خضرا عنه بعنوان "ليلة الرئيس الأخيرة"، ولأنها مكتوبة باللغة الفرنسية أساسًا ستبدو مستبعدة عن مجال البحث عن نصوص تُؤسّس لأدب الدكتاتور العربي.

من الغريب حقًّا أن حافظ الأسد، الناجي الوحيد من مصير الدكتاتور العربي المحتوم، لا يزال ناجيًا أيضًا من الدراسات والسير والتقارير التي تختص بشخصيته وطبائعها، الأمر الذي يجعل كتابة نص روائي عنه أمرًا مستبعدًا دون تلك المعطيات، لكنّ ذلك لم يمنع بعض الروائيين من جعله يحضر بصورة بسيطة، كما في رواية "رقصة القبور" لمصطفى خليفة.

يكاد الكاتب وليد سيف يكون أكثر الكتّاب العرب اهتمامًا بموضوعة الطاغية، وعبّر عن ذلك مرارًا في المسلسلات التي قدمها. وإن كنا نتحدث هنا عن أدب روائي، فإن جودة نصوص وإتقانها يرتقيان بالكتابة التلفزيونية إلى مستوى الذي يسمّى بالأدب التلفزيوني، ما يجعل من مناقشة السرديات التي قدمها في أعماله تصب في صميم موضوعنا.

من الغريب حقًّا أن حافظ الأسد، الناجي الوحيد من مصير الدكتاتور العربي المحتوم، لا يزال ناجيًا أيضًا من الدراسات والسير والتقارير التي تختص بشخصيته وطبائعها

دكتاتور وليد سيف متعدّد الملامح، ففي صورة أولى هو طاغية التأسيس الذي يجسده عبد الرحمن الداخل، وفي ثانية رجل التفكك والضعف يجسده محمد بن أبي عامر، وفي ثالثة هو قاهر شعبه وسالب قوته لكي يدفع الأتاوات والأعطيات للعدو.

 اقرأ/ي أيضًا: ماذا لو كان شعب الدكتاتور سعيدًا!

في مسلسل "صقر قريش"، نرى الطاغية بانيًا لدولة الأندلس التي ستصبح علامة زمانها، وربما سيقول القائل إن الدكتاتورية ضرورية في لحظة التأسيس، لكن الكاتب زاهر عبد الباقي يشير إلى أن المسلسل أكد على أن طغيانَ طور التأسيس زرع بذرة الضعف في الأندلس، بينما دكتاتورية ابن أبي عامر ستودي إلى انفراط عقد الدولة الأندلسية الواحدة، والدخول في عصر الطوائف حيث يجعل أمير المدينة التي يحكمها دويلة له ولأسرته من بعده.

لا بد من بذل جهد على صعيد بناء سرديات لما دار في القصور في الوقت الذي رزح فيه الشعب تحت القهر والرعب والفقر، وكيف بدت صور أولئك الحكّام حقيقةً عند اللقاء مع مسؤولي الدول القوية. وربما يساعد اعتماد الوثائق المتاحة، وأراشيف الصحف، والتحليل النفسي العلمي لشخصيات هؤلاء، إلى جانب الروايات الشفوية ممن شهدوا الأحداث من موقع وظيفي مهما صغر. لا بد من ذلك خصوصًا مع الطغاة الذين انتهى زمانهم، أو ممن ضعفت أنظمتهم، ولم يعد الوصول إلى أسرار دولهم بالصعوبة السابقة، من أجل أن نفهم شخصيات أولئك الذين ادعوا أبوة للأوطان، لكنهم أول من صنع يتمها.

 

 اقرأ/ي أيضًا:

لماذا نطيع الطغاة؟

دليل المبتدئين في صناعة الدكتاتور