31-مايو-2016

شرطيون مصريون يتحضرون لقمع أحد تظاهرات القاهرة (الأناضول)

حين أمشي بين البيوت الهادئة، في الحي الذي أسكن فيه، وأشم روائح الطعام وأسمع ما تسرب من أحاديث الكسل والأمان، أقول لنفسي والله كانوا آمنين مثلنا تمامًا. أحتفظ ببعض الصور التي تشكّل ذاكرتي عن الحكام والشعوب في صندوق صغير كأي امرأة كلاسيكية من مواليد الثمانينيات. صورة لجيفارا، وصور أخرى متخيلة لبلقيس وهيباتيا، وصورة لأحد ميادين العراق قبل الحرب، أقصد قبل الحروب. صورة لإعلان قديم عن رحلة بالباص بين حيفا والأردن والقاهرة في القرن الماضي، قبل أن يقرر أحدهم أن فلسطين أفضل من الأرجنتين ليقع عليها اختيار الرب في سكن عيال الرب المختارين!

ما أشبه خطاب التفويض الذي قام به السيسي في بداية عهده، بمجزرة قاعة الخلد التي قام بها صدام حسين

أنا مؤمنة أن هناك تحولًا ما في التاريخ لا تعود بعده الأشياء كما كانت. يقول الإسلاميون في بلادي إن هذا التحول كان بعد مجزرة رابعة، لكنني أرى اليوم، بعد تأمل في مجريات الأحداث، أن نقطة التحول كانت في خطاب التفويض. أقارن من حين لآخر بين خطاب التفويض الذي قام به السيسي في بداية عهده، وبين مجزرة قاعة الخلد التي قام بها صدام، حين قتل معارضيه باسم الوطنية والبعثية... إلخ إلخ، بينما أخصى إرادات الباقين إلى الأبد.

اقرأ/ي أيضًا: حين صار الموت خدمة إلزامية

وقف الرئيس عبد الفتاح السيسي ببذلته العسكرية، خلفه علم جمهورية مصر العربية، لكن ما كان يظهر منها على جانب كتفه الأيسر سيفان متقاطعان، والبذلة عليها كل النياشين الممكنة، والطاقية العسكرية مسيجة بخط ذهبي ثخين يحيط بمقدمة الرأس، يرتدي الرئيس نظارة شمسية سوداء لا تُظهر ملامح وجهه. يقول: أريد من المصريين أن يخرجوا غدًا لمنحي تفويضًا لمحاربة الإرهاب المحتمل. تضج القاعة بالتصفيق والزغاريد وصوت صراخ متحمس لا يُعرف مصدره. أعلام الجمهورية المجيدة تتمايل يمنة ويسرة ثملةً بخطاب السيد الزعيم.. أصوات صفير وكأنها مباراة كرة قدم. المدنيون جالسون لكنهم متحمسون، بينما يقف العسكريون جميعًا مصفقين تصفيقًا حادًا.

في ذلك الخطاب ارتبطت إرادة الشعب وقوته بما حدث، وكان في صالح الجيش والشرطة في "30 يونيو" و"3 يوليو"، أي في الحراك الذي أطاح بمعظم مكتسبات "ثورة 25 يناير" التي عبرت عن الإرادة الحقيقية للمصريين. كان هذا الخطاب عنوانًا لكل ما جرى بعده من انتهاكات حقوق الإنسان والقتل بالجملة في الشوارع، واستباحة أية دماء مدنية ما دام قاتلها عسكري أو شرطي محسوب على وزارة الداخلية، كما لو أن هناك ثأرًا بين الشعب والشرطة حان أوان اقتصاصه.

اشترى السيسي من الناس ثقتهم بالهيبة العسكرية وبدغدغة مشاعرهم القومية، ولأن الناس في بلادنا لا يزالون يصدقون أن الرجل العسكري أقوى وأشرف منهم قبلوا بكل سرور. لكن صدام في قاعة الخلد كان يبحث عن الخونة والمتآمرين ضد حكومة البعث في العراق، ملفقًا لهم تهمة التخابر مع البعثي السوري حافظ الأسد. وزع صدام نظرات لها معنى على الحاضرين ثم تحدث عن الخونة والمتآمرين والجميع يبلغ ريقه، ساد القاعة صمت ثقيل ثم جاء وقت الحديث عن المؤامرة فقال: "أعرف أنها ستكون صدمة نفسية عليكم، ولكن عليكم أن لا تنسوا حقيقة مركزية أن الثورة التي تريد أن تنقل الشعب من حال إلى حال، وتأخذ على عاتقها دور الأمة العربية لطرد الاستعمار والاستغلال والظلم فلا بد توقع المؤامرة عليها. بما في ذلك أناس من المنتسبين لها".

في مصر، اشترى السيسي من الناس ثقتهم بالهيبة العسكرية وبدغدغة مشاعرهم القومية

تلا صدام أسماء الخونة، وطلب منهم ترديد شعار الحزب ثم الخروج من القاعة ليواجهوا مصيرهم الذي كان إعدامًا بالرصاص وسميت بعدها "مجزرة قاعة الخلد". ردد الحاضرون، من الناجين، هتافات هيستيرية في مدح البعث وتبجيل صدام. بكى الجميع، واصطنع صدام مغالبة دموعه، ثم نظر إلى الخوف وهو يدجّن الرجال ويخصي الإرادات، واختلس نفسًا عميقًا من السيجار وهو ينظر نظرة ذات معنى لهيستيريا النجاة، التي خرج صراخها على شكل نحيب يمجد البعث والثورة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف أصبح الدولار حاملًا للمشروع الصهيوني؟

بعد هذا الخطاب أعفى صدام حسين الرئيس الشرعي أحمد حسن البكر من كل مناصبه، منقلبًا على كل شرعي في البلاد، متخطيًا مجلس الشعب ومجلس قيادة الثورة، وحين صعد لتولي الحكم قال: "إنني أسعى لأن أكون سيفًا بين السيوف وليس السيف الوحيد، وسأكون فارسًا بين الفرسان وليس الفارس الوحيد"، وردد في ذلك اليوم أسماء من اعتبرهم تعاونوا مع نظام حافظ الأسد ضد البعث العراقي. ومنذ ذلك اليوم لا صوت يُسمع في العراق سوى صوت السيد الرئيس، ومنذ يوم شبيه في القاهرة لا يُسمح لصوت أن يعلو فوق صوت السيد الرئيس. عاش صدام يٌرسل معارضيه إلى مشانقهم، ومسيرات الآلام كانت أطول من مسيرة المسيح نفسه. أقول لنفسي: هل تسقط القاهرة كما سقطت بغداد؟

اللحظة الوحيدة التي شعرت فيها أننا لا نوشك على الموت خنقًا، كانت في ساحة قريبة من التحرير يوم جمعة الأرض، حين طالعت صوت الشباب يهتفون سبابًا منغمًا تطرب له الأذن الحانقة. صحيح أن معظمهم الآن يواجه أحكامًا بالسجن تصل إلى خمس سنوات، وتتحسر على أعمارهم الغضة، لكنني أظن أنه لو عاد الزمن إلى الوراء بهم لفعلوا ما فعلوا ثانية دون ندم.

اقرأ/ي أيضًا:

الإذاعة التي صارت محكمة في غزة

عقيدة الصدمة الغربية