18-أغسطس-2017

جسر باب القنطرة في قسنطينة، عام 1900

تعوّدنا في ثقافتنا العربية على التعامل مع الهامش من منطلق كونه شارحًا للمتن، بالتالي فهو تابع له. والنظرة إلى التابع ـ من حيث الإجلال ـ غير النظرة إلى المتبوع، ناسين أن هذا الهامش كائن حي في الأصل قد يعمل في غفلة منا على الالتفات إلى ذاته، وتطوير تأملاتها بحثًا عن الخلاص، وهو بهذا أقرب إلى روح الثورة والتغيير من المتبوع، الذي يركح إلى اليقين دائمًا، وهي الروح ذاتها التي تعني الفن الحقيقي.

إن الاشتغال على الهوامش في الفن لقمة سائغة يتلقفها التاريخ فيمنح صاحبها الخلود

إن الاشتغال على الهوامش في الفن لقمة سائغة يتلقفها التاريخ فيمنح صاحبها الخلود. فالتاريخ لا يحتفي بالفن الذي يحتفي بالسّائد، لأن المكرّس لا يصنع تاريخًا جديدًا، ذلك أن المكرّس بارع في إعادة ما تمّ إنتاجه على أنه هو النموذج، لذلك يستعين بشرعية الدين والقبيلة في مواجهة التغيير، وتسفيه أحلام روّاده.

اقرأ/ي أيضًا: العمران الجزائري.. تراث مضيّع وحداثة مستعجلة

إن تأمّلًا بسيطًا في الثورات العربية، بغض النظر عمّا آلت إليه، فذلك يُقرأ في سياق آخر، يجعلنا نقف على حقيقة لم تدرس بالشكل الكافي، هي أنها جميعَها لم تنطلق من مدينة مكرَّسة على يد شريحة مكرسة بمقولات مكرّسة (سيدي بوزيد التونسية ودرعا السّورية نموذجًا). إن البوعزيزي أعطى للهامش الشرعية الحقيقية، وقد أدركت نخبة في حقول إبداعية مختلفة هذه الفلسفة بمعايشتها لأمثال البوعزيزي معايشة تقوم على محبة الإنسان، لا على تعالي الكاتب الأرستقراطي الذي كان يراه حثالة، وبمجردّ أن رأى ثورته نجحت وضع صورته مكان صورته في فيسبوك متناسيًا أن التاريخ قاضٍ قد يبدو نائمًا لكنه يسجلّ كل شيء، فقدمت إبداعات بقيت حبيسة مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تستطع أن تخترق عوالم النشر والنقد والإعلام، التي بقيت تابعة لهيمنة المتن/ الأنظمة التي قامت هذه الثورات لزحزحتها أصلًا.

لم تعد العاصمة في الوطن العربي كله ذلك المجمّع من الذكاء والجمال والاحتفاء بهما، مثلما كانت قبل الاستقلالات الوطنية وبعيدها بقليل، بغداد ـ القاهرة ـ بيروت ـ صنعاء ـ دمشق ـ الجزائر العاصمة، بفعل الترهلات التي ألمّت بها على يد أنظمة حكم تعسفية أجهضت المشاريع الحضارية كلها، ودجّنت الفضاءات الشعبية، ثم أفرغتها من محتواها.

لم تعد العاصمة في الوطن العربي كله ذلك المجمّع من الذكاء والجمال مثلما كانت قبل الاستقلال الوطني

إذا أخذنا الجزائر العاصمة نموذجًا، قبل الاستقلال وبعده، فإننا لن نجدها هي نفسها من حيث النبض. مقهىً وسوقًا ومسجدًا ومدرسةً وناديًا وملعبًا وحانة وشارعًا، إن ناديًا واحدًا قبل الاستقلال مثل نادي الترقي فعل من حيث المساهمة في تشكيل الوعي الديني والفكري، ما لم تفعله وزارة الشؤون الدينة برمتها، وإن مقهى واحدًا في حي باب الوادي خلق من الوعي الفني، والحفاظ على الذاكرة الثقافية ما لم تفعله وزارة الثقافة اليوم بعشرات المهرجانات والطنية والدولية.

اقرأ/ي أيضًا: شفشاون.. المدينة الزرقاء الساحرة

إن الحياة تنبض في مدن بعيدة مثل أدرار والبيّض وتندوف وجانيت وتبسة والأغواط وبجاية، لا في الجزائر العاصمة التي لو تتوفر فروع للإدارات المركزية في الولايات الداخلية، وفرص العمل وتحقيق الذات هناك لما زارها اختيارًا إلا القليل. ثم إن وسائط الاتصال الجديدة ألغت الحدود معظمَها، فألغت بذلك الوسطاء والوساطات بحيث بات ممكنًا لكاتب مبدع أن يصل إلى الأقاصي، وهو يقيم في بلدية نائية، إلا من أبى طبعًا، إذ هناك شريحة من المثقفين ترفض أن تحرّر نفسها، حتى أنها تعتبر رضا المدير الولائي للثقافة عنها مكسبًا يجلب الارتياح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في العمارة الجزائرية: حياة مفخخة

المدينة التي تزيّف بوصلات العالم