17-أغسطس-2019

تعاملت المؤسسة الأمريكية مع ملف التدخل الروسي باستسهال (Getty)

أعلن ترامب عام 2015 نيته للترشح للانتخابات الرئاسية عن الحزب الجمهوري في صدمةٍ كبيرةٍ قوبلت، في ذاك الوقت، بعاصفةٍ من السخرية والاستهزاء، فقد أصبح ترامب لقمةً سائغةً وهدفًا سهلًا للبرامج النقاشية المسائية والكوميديين. ولكن تحوّلت الكوميديا إلى كوميديا سوداء ممزوجةٍ ببعض التراجيديا، على الأقل على شاشات نسبةٍ لا بأس بها من وسائل الإعلام، وقت إعلان رجل الأعمال وبطل تلفزيون الواقع رئيسًا جديدًا للولايات المتحدة الأمريكية.

إن وهن نظام التصويت الأمريكي يجعل منه وجبةً دسمةً لبوتين، فسلبية الإدارة الأمريكية ومجلس الشيوخ قد قوّضت جميع الاستجابات الممكنة على الصعيدين التنفيذي والتشريعي

انطوت حملة ترامب الانتخابية والمناخ السياسي الأمريكي بصفةٍ أوسع في تلك الفترة على العديد من الأزمات والشد والجذب، كان من أبرزها الادعاءات المستمرة بوجود تدخّلٍ روسي بسير الانتخابات الرئاسية.

اقرأ/ي أيضًا: حلف هلسنكي.. "ترامبوتين" في مواجهة المؤسسة الأمريكية

شهدت أزمة التدخل الروسي تطوراتٍ متسارعةٍ كانت بدايتها الفعلية ربما في شهر أيلول/سبتمبر من 2015، عندما أشعرت الإف بي آي مكتب اللجنة الوطنية الديمقراطية (DNC) بأن حاسبًا واحدًا من حواسبها على الأقل قد تم اختراقه على يد مخترقين روسيين.

تلا ذلك عددٌ من التحقيقات، أبرزها ما عرف باسم تحقيق ميولر (The Mueller Probeوالتصريحات وتبادل الاتهامات، وحتى فرض عقوباتٍ على روسيا من قبل الرئيس أوباما إضافةً إلى ضلوع ويكليكس في القضية وتأكيدها الحصول على رسائل إلكترونية لها صلةٌ بذلك. تُوجّت هذه التطورات المتسارعة بإعلان وزارة الأمن الداخلي ومكتب الاستخبارات القومية بشأن أمن الانتخابات أن الكتلة الاستخبارية "متيقنةٌ أن الحكومة الروسية كانت من أصدرت الأوامر باستخلاص رسائل إلكترونية من مؤسساتٍ وشخوصٍ أمريكيين. تلا ذلك تقريرٌ من الواشنطن بوست يقول إن الاستخبارات الأمريكية قد وجدت أن هذا التدخل كان لدعم حملة ترامب والتأثير سلبًا على حملة كلينتون.

لم تنتهِ الأزمة بوصول ترامب إلى البيت الأبيض يوم 20 كانون الثاني/يناير 2017، بل طفت على السطح المزيد من التفاصيل والأسماء، كان منها تصريحٌ لبوتين نفسه الذي أشار إلى أن هذه الاختراقات قد تكون على يد مواطنين روسيين دفعتهم غيرتهم على وطنهم إلى مهاجمة الانتخابات الأمريكية بسبب الإهانات التي وجهّتها واشنطن لروسيا، وأيضًا جلسة استماع في مجلس الشيوخ لأحد مسؤولي وزارة الأمن الداخلي قال فيها إن روسيا استهدفت صناديق الاقتراع في 21 ولايةً مختلفة.

لا يغطّي هذا الملخّص السريع سوى جزءً زهيدًا جدًا من تفاصيل هذه القضية الشائكة، ولكن يبقى السؤال الأهم، مع إطلاق ترامب رسميًا لحملته الجديدة يوم 18 حزيران/يونيو الماضي، هو إن كانت الانتخابات القادمة ستكون أحسن حالًا من سابقتها.

في هذه المقالة المنقولة بتصرف من مجلة New York Magazine، يبيّن جوناثان تشير لماذا من الممكن أن تشهد الانتخابات القادمة تدخلًا أوسع من الروس، مسلّطًا الضوء على التطورات السياسية والطبيعة الركيكة لنظام التصويت الأمريكي نفسه.


فلنفترض أن دونالد ترامب قد خسر الانتخابات الرئاسية 2020 بحكم قواعد المجمع الانتخابي؟ فهل سيتورّع عن رفض نتائج الانتخابات. أول ما يجب أن يتوارد إلى أذهاننا أن ترامب قد فعل ذلك من قبل.

بالعودة إلى عام 2016، عندما كان يُعتقد أن فوز هيلاري كلينتون هو مما لا خلاف عليه، كانت أحد المخاوف الجدية هي أن لا تنال النتيجة إعجاب ترامب مما قد يقوّض تقليد الانتقال السلمي للسلطة الذي قام لأكثر من قرنين. وكانت النتيجة هي ما لم يحسب حسابه أحد، فقد انتزع ترامب الانتصار، ولكنه مع ذلك رفض قبول نتائج الانتخابات. فأصرّ ترامب أن الاقتراع الشعبي، الذي فازت فيه كلينتون بفارقٍ يقارب ثلاثة ملايين صوت، قد سُرِقَ منه سرقةً. وصرخ قائلًا مرةً بعد الأخرى أن ملايين المهاجرين غير الموثّقين أدلوا بأصواتهم لكلينتون، وأن الأيدي المحتالة قد لطخّت قدسية العملية الانتخابية، لسببٍ لا يعلمه أحد، في كاليفورنيا دون غيرها من الولايات، عوضًا عن أي ولايةٍ أخرى ربما كانت لعمليات الاحتيال هذه أن تغيّر نتائج الانتخابات. بل إن ترامب قد استطرد أكثر في إصراره هذا في خطابٍ ألقاه مؤخّرًا في قمة Turning Point USA Teen Summit التي ترعاها المنظّمة المحافظة:

"لا تضحكوا على أنفسكم، هذه الأرقام في كاليفورنيا وغيرها من الولايات، لقد كانت أرقامًا زائفة". وترى أكفّ الحاضرين تصفّق للرئيس الأمريكي وهو يقول هذه الكلمات بتسليمٍ كامل: "لقد حُسِبَت أصوات أشخاصٍ لا يملكون حق التصويت. لقد صوّتوا أكثر من مرة، ولا أقول مرتين أو ثلاث فقط بل كان الأمر مثل دورة. فهم يعودون، ومن ثم يرتدون قبعةً جديدة. ومن ثم يعودون وهم يرتدون قميصًا جديدًا. بل هناك الكثير من الحالات التي لم يكلّفوا فيها أنفسهم عناء ذلك أصلًا. أنتم تعرفون ما يجري. الموازين مزوّرة".

بكل تأكيد سيبقى خيار اللجوء إلى الدكتاتورية خيارًا مفاجئًا حتى بالرغم من انتهاك ترامب للكثير من التقاليد السياسية. ولكن يبقى هناك مساحةٌ واقعيةٌ، ومخيفة، لأزمةٍ دستورية في الانتخابات المقبلة. وليس عليك أن تنظر أبعد من تقرير اللجنة الاستخبارية في مجلس الشيوخ حول التهديدات الروسية لجهاز الانتخابات، والأهم رد الحزب الجمهوري على ذلك.

لن تجد نظامًا أكثر تداعيًا من عملية التصويت من بين جميع مؤسسات ونظم الحكومة الأمريكية. فتتكئ شرعية النظام على تقبل الشعب للثقة في دقة نظامٍ لا يُعتبر نظامًا إلا تجاوزًا. فهناك الخلطة الغريبة، حيث إن الآلات التي تُستخدَم لعد الأصوات لا تختلف بين ولايةٍ وأخرى، بل في نفس الولاية. وأيضًا هناك العراقيل التي يضعها السياسيون (معظمهم جمهوريون، ولكن ليس جميعهم) لجعل عملية التصويت أصعب عن قصد. ومع وجود نظام المجمع الانتخابي، تستفحل مشكلة وقوف نتائج الانتخابات على بضعة صناديق اقتراع. فنحن نطلق وصف سباق انتخابيٍّ "محموم" على الانتخابات الوطنية التي تحسمها مئات الآلاف من الأصوات، وهي نسبةٌ أعلى بكثير من بضعة مئة صوت كانت من حسمت معركة فلوريدا عام 2000.

يقرّ تقرير مجلس الشيوخ أن الروس لم يخترقوا آلات التصويت عام 2016، ولكنهم أجروا مسحًا على استراتيجيات الدفاع في كل الولايات الخمسين. فقد أخبر أحد الخبراء اللجنة أن روسيا كانت "تقوم بعمليات استطلاع لترسم شبكات، لترسم خرائط طوبوغرافية، حتى تستطيع أن تفهم الشبكة، وتؤسّس وجودها، ومن ثم تعود لاحقًا وتنفّذ عملية".

 الجانب الذي يثير الرعب في التقرير ليس الحقائق التي يكشفها فعليًا. فلن تجد الكثير من ذلك عندما تدرك أن التقرير تزيّنه هذه الخطوط السوداء السميكة التي تحجب جزءًا كبيرًا من النصوص. ويُضاف إلى ذلك استخدام مصطلحات فضفاضة مثل خبيث، وغير مفهوم، وهجوم. الأمر صدقًا أشبه بأن ترى شخصًا يدخل مسرعًا إلى غرفة عمليات ويهمس شيئًا فقط في أذن رئيسه الذي تتسع عيناه فجأة وهو يستمع إلى ما يُقال.

ما يثير القلق أكثر من الضعف المتجذّر في نظام الانتخابات هو السياق السياسي الذي وُجِدَ فيه هذا النظام. فقد قلّل الرئيس ترامب في مناسباتٍ متكرّرة من احتمالية تورط روسيا في اختراق انتخابات 2016 (التي استغلها ترامب نفسه لصالحه)، أو أنكرها بالكامل. وربما لو أردنا أن نشرح هذا الموقف بحسن نية لقلنا إن الرئيس ترامب يغار على شرعية انتخابه، ولكن هذا لا يفسّر لماذا يرفض ترامب قبول المعلومات الاستخبارية عن نية روسيا بالتدخل في الانتخابات القادمة.

فقد أوردت صحيفة النيويورك تايمز تقريرًا قالت فيه إن ميك مولفاني، رئيس فريق عمل ترامب، قد حذّر وزيرة الدفاع الداخلي كريستن نيلسين من التطرق لموضوع الخطط الروسية للتدخل بانتخابات 2020 في حضرة الرئيس. وأورد التقرير أيضًا أن الإدارة قد قامت بإلغاء منصب منسّق الأمن السيبيري. ولكن هذا التقرير الذي يشيب له الرأس حوى إشارةً إيجابيةً هي تأكيد مدير الاستخبارات الوطنية، دان كوتس، صاحب السمعة الطيبة بأن "أمن الانتخابات كان وسيبقى أحد أعلى أولويات أمننا القومي".

أُقيل كلٌّ من كوتس ونيلسين لاحقًا. وكان أحد أهم أسباب التوتر بين كوتس وربّ عمله هو روسيا بصفةٍ عامة والعمليات الانتخابية تحديدًا. البيت الأبيض أيضًا لطّف موقفه الرسمي من قضية تدخل روسيا في الانتخابات النصفية. فبتاريخ 1 آب/أغسطس، أجاب ترامب بضحكاتٍ ساخرة على سؤال أحد الصحفيين عن قيام ترامب بمناقشة تحذيرات ميولر حول وجود تدخّلٍ في الانتخابات خلال المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيسان مؤخّرًا ("لا تخبرني أنك صدّقت هذا الكلام. هل صدّقت ذلك حقًّا"). كما عبّر ميتش مكونيل، رئيس كتلة الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي، عن امتعاضه من التصويت لصالح مشروع قانون أمن الانتخابات في مجلس النواب قائلًا بأنه "قانونٌ يؤجّج الفروق الحزبية رعته نفس الكتل التي أمضت عامين وهي تهوّل نظرية مؤامرة حول الرئيس ترامب وروسيا ولا تزال مصرّةً على تجاهل التقدم الذي أحرزته هذه الإدارة على طريق تصحيح فشل إدارة أوباما على هذا الصعيد".

من المهم هنا ملاحظة ترديد مكونيل لأسلوب كلام ترامب. فهو يساوي بين الأمن الانتخابي وتورط ترامب مع روسيا، ومن ثم يستخف بهذه القضية واصفًا إياها بأنها "نظرية مؤامرة" بالرغم من الأدلة الوافرة التي تثبت عكس ذلك، قبل أن يلتفت إلى لوم إدارة أوباما على عمليةٍ قام ترامب نفسه بمباركتها.

وكان بإمكان مكونيل رفض بنود بحد ذاتها في اعتراضه على مشروع القانون الديمقراطي بدلًا من رفض الفكرة بكاملها على أساس أنها عذرٌ هزيل تعلّق به الديمقراطيون بعد هزيمتهم لتبرير إخفاق أوباما. ولكن هناك عددٌ كبيرٌ من الجمهوريين في واشنطن الذين يتفقون مع كوتس والكتل الاستخباراتية بشأن مخاطر تدخل روسيا في الانتخابات. وهناك عددٌ كبيرٌ من مشاريع قوانين أمن الانتخابات التي لاقت مباركة الحزبين في مجلس الشيوخ، ولكن مكونيل يرفض تمرير أيٍّ منها. "حتى التحالفات بين الحزبين قد بدأت بالانهيار في وجه الحصار الذي يفرضه زعيم كتلة الأغلبية"، كما تقول صحيفة نيويورك تايمز في تقريرٍ لها نُشِرَ في شهر حزيران/يونيو الماضي.

يفضّل مكونيل التواري عن الأضواء، ولكن حرصه على ضبط ولو أبسط صرخات الوطنية والضمير في التكتل الجمهوري يعرّي عمق التزامه. فهو الموظّف الصامت الذي بات اليوم متواطئًا مع هجومٍ خارجيٍّ ومحليٍّ على البلاد.

إن وهن نظام التصويت الأمريكي يجعل منه وجبةً دسمةً لبوتين. ونستطيع استشفاء معلومتين مهمتين حول احتمالية هجومٍ روسي من ردّ الإدارة ومجلس الشيوخ على التهديد الروسي أو غيابه بالأحرى. أولهما هي أن احتمالية نجاح عملية الاختراق أكبر هذه المرة. فسلبية الإدارة الأمريكية ومجلس الشيوخ قد قوّضت جميع الاستجابات الممكنة على الصعيدين التنفيذي والتشريعي.

تصدر الوكالات الحكومية تحذيراتٍ كثيرةٍ عن مصائب لا تقع في النهاية. ولكن لا يخفى أن روسيا تملك الحافز لتتحرّك، وأن عمليةً كهذه قد يُكتَب لها النجاح، نظرًا لأنها تستطيع التأثير بآلات التصويت في أي مكانٍ تقريبًا، ولا تحتاج سوى للتأثير على بعضٍ منهم لترجيح كفة الانتخابات. فكل ولايةٍ من الولايات التي يكون حسم الانتخابات فيها عادةً تحتوي مدينةً كبيرةً واحدةً على الأقل تملك تركيزًا عاليًا للأصوات الديمقراطية. وبهذا لا تحتاج روسيا سوى إلى تعطيل أو التلاعب بإحصاء الأصوات في فيلادلفيا أو ديترويت أو ميلاواكي، على سبيل المثال، لتمنح ترامب فوزًا مضمونًا أو تخلق ظروفًا تؤدّي إلى انتخاباتٍ مشكوكٍ في نتائجها. وستكون روسيا سعيدةً بهذا أو ذاك، لأن أيًّا منهما سينزع شرعية العملية الديمقراطية على أساس أنها مجرد تمثيلية وسيُبقي ترامب بالبيت الأبيض. وقد طغت هذه الديناميكية على التغطيات والتحليلات التي تناولت هذه القضية.

الحقيقة الأهم بكثير التي يعرّيها ذلك هو لا مبالاة الجمهوريين بالتهديد الروسي الذي يعطينا فكرةً عن كيفية استجابة الحزب في حال تم اختراق الانتخابات في الولايات المتحدة. فطريقة دعمهم لترامب تنذر بأن وجود نزاعاتٍ حول صحة عدد الأصوات يتسبّب به اختراقٌ روسي سيتمخّض عن أزمةٍ دستوريةٍ منهجية.

دافع مكونيل عمّا قام به من إعاقةٍ لمسار العدالة بالإشارة إلى ما عرف عنه من توجسٍ من روسيا. ولكن المشكلة هنا ليست ولاء مكونيل لروسيا، وإنما ولاؤه للحزب الجمهوري. فإذا كانت الصين أو السعودية أو كوريا الشمالية هي من تساعد رأس الحزب الجمهوري، فلن يقف مكونيل في طريقهم أيضًا.

لقد أثبت مكونيل أنه يفضّل فوز حزبه بدعمٍ روسيٍّ على خسارته مطلقًا. ففي الأسابيع التي سبقت انتخابات عام 2016، خصّ مدير الاستخبارات الأمريكية في ذاك الوقت جون برينان بتحذيراتٍ إلى زعماء في مجلس النواب حول إشراف بوتين شخصيًا على محاولاتٍ للتدخل في الانتخابات وترجيحها لكفة ترامب، وهو ما قد ينطوي على اختراق رسائل إلكترونية وأيضًا آلات تصويت. تعامل مكونيل مع هذه التحذيرات ببرودٍ شديد ورفض توقيع بيانٍ مشتركٍ بين الحزبين يحذّر روسيا من التدخل في الانتخابات، بحسبما ادعاه بايدن في 2018، ولكنه أخبر برينان أن مكونيل سيوجّه اتهاماتٍ إلى برينان بالتدخل في الانتخابات ضد ترامب إذا ما عمّم مدير الاستخبارات الأمريكية هذه التحذيرات على الملأ. بل إن مكونيل امتنع بدايةً عن توقيع رسالةٍ تحذير لمسؤولي الانتخابات في الولايات من اختراقٍ روسي، ولكنه وافق في النهاية على توقيع نسخةٍ أقل حدة من ذات الرسالة لم تحوي على ذكرٍ لروسيا بالاسم.

حصل كل ذلك في وقتٍ كانت فيه إهانة ترامب أمرًا عرضيًا لا يكلّف شيئًا. فقد أقرّ زعماء الحزب الجمهوري بأن مرشّحهم سيخسر، وسيكون عليهم خلال أسابيع من الآن البدء بتنظيف الفوضى التي سيخلّفها. فإذا رفض مكونيل التعاون مع الجهود الحزبية المشتركة للوقوف في وجه الاختراق، فيستحيل تخيل أنه سيوافق على فعل ذلك بعد أن قام ترامب بسحق جميع الأصوات المعارضة داخل الحزب.

ربما يكون الرئيس الأمريكي اليوم هو أنكى المنادين بوجود عمليات احتيالٍ في التصويت، ولكنه بالتأكيد ليس الوحيد المنكبّ على هذه الأوهام. فهذه الفانتازيا توارثتها امتداد تقاليد الإعلام اليميني الذي يصبح فيها اتهام الشريحة المدنية الديمقراطية بالاحتيال الممنهج جزءً من العقيدة. جلستُ خلال العهدة الثانية للرئيس بيل كلينتون، في غداءٍ غير رسمي مع زعيمٍ رفيعٍ في مجلس النواب من الموالين للحزب الجمهوري. وسأل أحد زملائي سؤالًا يقوم على أساس فوز كلينتون بهامشٍ مريح. وكان جواب الزعيم الجمهوري هو رفضه لافتراض السؤال، فقد كان يؤمن أن عمليات احتيالٍ واسعةً قد صبّت في مصلحة مجموع الأصوات التي حصدها الحزب الديمقراطي ولهذا فهو غير واثقٌ أن كلينتون فاز فوزًا شرعيًا (كان كلينتون قد فاز عام 1996 بهامشٍ وصل إلى 8.5% أي ما يعادل أكثر من ثمانية ملايين صوت).

كما أن إدارة جورج بوش، وليس ترامب، هي من أمرت وكلاء وزارة العدل الأمريكية بضبط وملاحقة عمليات الاحتيال في التصويت، ومن ثم قامت بطرد بعضهم عندما فشلت في إيجاد أي شيءٍ من هذا القبيل. وكان بعضٌ من زعماء مجلس النواب الجمهورين المعروفين هم من حاربوا منظمة أكورن، منظمة شعبية تقدمية، على أساس اتهاماتٍ بتسجيل منتخبين محتالين، مما أدى إلى حل المنظمة. وكان محافظون ومشرّعون جمهوريون هم من فرضوا عددًا من القوانين لكبت المنتخبين خلال العقد الماضي.

من حسن حظ بوتين أن حالة الذعر الجمهورية العارمة هذه تركّز على الهدف السهل: نظام التصويت. خَلُصَ تقرير لجنة استخبارات مجلس الشيوخ إلى أن عملية اختراق آلات إحصاء الأصوات عن بعد هي عمليةٌ صعبة (ولكن ليست مستحيلة)، فإن الطريقة الأسهل لروسيا لتقويض الانتخابات تتمثل بالتلاعب باللوائح الانتخابية (اللوائح التي تحتوي أسماء الناس الذين سجّلوا للتصويت في انتخاباتٍ معينة) وتقوم بحذف أسماء منتخبين شرعيين، أو على الأقل إغراق دوائر مهمة في حالةٍ من الفوضى.

يعني، بالحديث عن أزمة خلافة ترامب، لا يحتاج الأمر أن نتخيّل جحافل من الدبابات تجتاح شارع بينسلفينيا أفينيو في العاصمة الأمريكية واشنطن. بل سيكون الأمر ببساطة نسخةً أكثف من قضية إعادة عد الأصوات عام 2000. فخلال تلك الأزمة، قامت حكومة ولاية فلوريدا التي يترأسّها شقيق المرشّح الجمهوري بحجب عمليات إعادة عد الأصوات بصورةٍ متكرّرة، وهو طلبٌ يحقّ للديمقراطيين القيام به. بل وصل الأمر في إحدى الأيام إلى قيام فرق عملٍ جمهورية باقتحام مكاتب في مدينة ميامي كانت تتمّ فيها عملية إعادة عد الأصوات وإغلاقها. ولم يقم أي جمهوريٍّ أو محافظ بإدانة استخدام تكتيكات البلطجة لإيقاف عمليةٍ حكوميةٍ شرعية. وفي النهاية نجح الجمهوريون بتأخير العملية بمساعدةٍ ثمينةٍ قدّمتها المحكمة العليا أدّت في النهاية إلى إيقاف عملية إعادة العدّ على مستوى الولاية.

يتذكّر الناس ذاك الحزب الجمهوري الذي انتزع الفوز في عملية إعادة العد عن طريق القوة بقلوبٍ دافئة لمّا كان يُعرف باحترامه للقيم الليبرالية، وهو أمرٌ صحيحٌ نوعًا ما، ولكن في سياقٍ محدود، إذ أن هذا الحزب قد انسلخ من قيم الليبرالية إلى حدٍّ كبير. فنسخة 2020 من الحزب الجمهوري هي نسخةٌ أكثر تطرفًا في أيديولوجياتها ووسائلها، وستتمتّع بأفضليةٍ مهمةٍ لم تكن تملكها عام 2000: رئاسة البيت الأبيض.

اقرأ/ي أيضًا: مادلين أولبرايت.. أن تغرس رأسك في رمل "الخلاص الليبرالي" الدافئ

فلنقل إن الانتخابات تؤدّي بنا إلى طريقٍ مسدودٍ شبيهٍ بأزمة فلوريدا، وأن صناديق الاقتراعات التي ستتوقّف عليها نتائج الانتخابات ستكون في بينسلفانيا أو ويسكونسن (أو مفارقةٍ تاريخيةٍ تهكمية) فلوريدا نفسها. ومن ثم تبدأ المدن الرئيسية بالقول بوجود بعض التناقضات في مجموع عدد المنتخبين، كان سببها على ما يبدو مشاكل لا يُعرف طبيعتها تمسّ قوائم تسجيل المنتخبين أو صناديق الاقتراع. ويشير مسؤولون استخباريون بأصابع الاتهام إلى مخترقين روسيين، ولكن وكالات الحكومة الفيدرالية، التي يتحكّم بها موالون لترامب، ترفض تأكيد هذه المزاعم. ويقلّل ترامب من أهمية هذه الاتهامات على أنها مجرد محاولاتٍ تخريبية "من الدولة العميقة". وتبدأ شاشات فوكس نيوز بالعويل والحديث عن وجود عمليات احتيال وراؤها الديمقراطيين وصل حجمها إلى ملايين الأصوات.

شهدت أزمة التدخل الروسي تطوراتٍ متسارعةٍ كانت بدايتها الفعلية ربما في شهر أيلول/سبتمبر من 2015، عندما أشعرت الإف بي آي مكتب اللجنة الوطنية الديمقراطية (DNC) بأن حاسبًا واحدًا من حواسبها على الأقل قد تم اختراقه

ترامب يصرّ أنه هو الفائز الشرعي. ولن يكون هناك أي إعادات! وتغرق سي إن إن في مهاتراتٍ غير مفهومة عن مزاعم الاحتيال. ويصرخ المتظاهرون على بعضهم البعض في الشوارع، وتندلع الفوضى في كل مكان. وفي البيت الأبيض يجلس رجلٌ يدرك جيدًا واحدًا من أهم مبادئ نزاعات العقارات: التملك هو تسعة أعشار القانون.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بالون ترامب "الطفل".. الاحتجاج بالضحك

وثائق برادايس تكشف المستور في علاقة وزير التجارة الأمريكي مع بوتين