21-يوليو-2018
Profile silhouette screaming woman with storm cloud in head

لا تعني أصوات الرأس أن صاحبها بالضرورة مصاب باضطراب نفسي (Getty)

خلال سنتها الجامعية الأولى، بدأت إليانور تسمع أصواتًا في رأسها، وكأن أشخاصًا آخرين يتحدثون داخلها، تصف إليانور ما يحدث في عالمها الشخصي، بكونه أشبه "بحرب أهلية نفسية". وقد عانت كثيرًا وهي تقاتل لوقف الأصوات لأنها أصبحت أكثر عدائية، قبل أن تقرر زيارة المعالج النفسي، حيث تم تشخيصها بمرض الفصام.

ليس بالضرورة أن الذي يسمع أصواتًا في رأسه، أو ما يُعرف بالهلوسة السمعية، مصاب باضطراب نفسي

في الواقع كثير من الناس يسمعون أصواتًا تتحدث في رؤوسهم، وبالتالي إذا كانت لديك أصوات عالية أو غريبة في رأسك، فلا يمكنك أن تفترض بالضرورة أنك مصاب باضطراب نفسي أو أنك بحاجة إلى العلاج، لذلك فلا داعي للقلق. وفي هذا الشأن يقول الأخصائي النفسي ساني كوبس إنه "إذا كان الأداء الاجتماعي والمهني غير منقوص، أو لا تضايقك هذه الأصوات بشكل كبير أو دائم، فقد لا تكون الهلوسة السمعية جزءًا من أي اضطراب أو متلازمة".

من أجل التشخيص التفريقي، ربط كوبس، بناءً على دراسة له، الهلوسة السمعية المرضية بقرائن عادة ما تصاحبها، مثل الأوهام البصرية وغياب التفكير المنظم والرعاش والنوبات. في هذه الحالة ينبغي الذهاب إلى طبيب نفسي مؤهل.

woman with shapes coming out of head

 

وبغرض معرفة الظروف التي يتحدث فيها الناس عامة مع أنفسهم وكأنهم أشخاص آخرون، أجرى دولوريس ألبارسين وزملاؤه ثلاث دراسات، ونشروا نتائجهم في ورقة بحثية، ذكروا فيها أن "الناس يميلون للتحدث مع أنفسهم مثلما لو كانوا شخصًا آخر، عندما يحتاجون إلى ممارسة ضبط واضح للنفس أو لتنظيم الأفكار والتصرفات الذاتية، خاصة في المواقف السلبية". حيث يصبح الصوت الداخلي بمثابة "والد بديل أو أباء بديلون" يخبرونك بما يجب القيام به، وما لا يجب أن لا تفعله.

يقول الأخصائيون النفسيون، إن هناك مجموعة من الاضطرابات النفسية والعصبية التي تتسبب في ظهور الهلوسات السمعية المرضية، على رأسها  الفصام، الذي يعاني أصحابه من أصوات حقيقية تنبعث من داخل جماجمهم. وهو نفس المرض لدى الشابة الجامعية إليانور لوندن.

وغالبًا ما تكون هذه الأصوات التي يسمعها مرضى الفصام مبتذلة أو مهينة، حيث يسمعون انتقادات باستمرار لتصرفاتهم، وقد يتلقون أوامر بارتكاب أفعال عدوانية، مثل إيذاء النفس أو ممارسة عنف تجاه شيء أو شخص ما، بدون سبب واضح. وفي بعض الأحيان، تكون الهلاوس الصوتية متعددة وليس صوتًا واحدًا فقط، تتخذ شكل همسات، أو هدير، أو صراخ، أو حتى كلامًا عشوائيًا غير مفهوم، مما يسبب للمرء تشتتًا ذهنيًا مستمرًا يؤثر سلبًا على أدائه الخارجي.

ومن المثير للاهتمام أن نفس مناطق الدماغ التي تنشط عندما يسمع الناس ضوضاء خارجية، تضيء أيضًا لدى مرضى الفصام أثناء حلقات الهلوسة السمعية، كما تظهر تجارب التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهو ما يعني أن المرض يرتبط بخلل عصبي في وظائف الدماغ، وهكذا يمكننا أن نتفهم مدى العجز والارتباك الذي يواجهه الأفراد المصابين بالبارانويا وهم يتعاملون مع الأعراض التي لا يستطيعون السيطرة عليها.

بعدما خضعت للعلاج، تعلمت إليانور لوندن التعامل مع الأصوات التي تصدر من داخل رأسها، والسيطرة عليها لصنع السلام مع نفسها. بل أكثر من ذلك استطاعت تحويل تلك الأصوات المزعجة إلى هامسين إيجابيين، يساعدونها في تنوير بصيرتها وقضاء أغراضها.

في الأيام القديمة، تقول إليانور: "كانوا يتحدثون فيما بينهم عني أكثر بكثير، أما الآن فيتحدثون معي بشكل مباشر. وعندما يناقشونني، فمن المرجح أن يكونوا مجاملات أو تشجيعًا إيجابيًا.  في بعض الأحيان يناقشونني في الحلول الممكنة لشيء أشعر بالقلق حياله. وعندما أكون متوترة تصبح أصواتهم عدائية ما ينبهني إلى أنه حان الوقت للخروج والترفيه، لكن هناك صوتا مفيدا بجانبي دائما يخبرني: إذا كنت تستطيعين فعل شيء حيال ذلك، فلا داعي للقلق. وإذا لم تستطيعي فعل أي شيء حيال ذلك، فلا داعي للقلق!".

تقر إليانور أن الأصوات التي تتحدث داخلها رأسها، صارت جزءًا مهما من هويتها الشخصية، وتقدم لها تشجيعات وحلول وتنبيهات، لكونها تمتلك ذخيرة ثرية للغاية من الذكريات والعواطف والأفكار المختلفة، حتى أنهم أصبحوا يساعدونها في امتحاناتها الجامعية!

وعلى مدار 40 سنة، عمل روسيلت هوربرت،  وهو طبيب نفسي من جامعة نيفادا الأمريكية، على موضوع الهلوسات السمعية، ووجد في دراساته أن "أن معظم الناس مخطئون في الحكم على تجاربهم السمعية الداخلية الخاصة، إذ إن حديثنا الداخلي ليس سلبيًا بشكل دائم، وهي فكرة تطير من رأس معلمي المساعدة الذاتية"، مفسرًا ذلك بحقيقة أن معظم الناس ينظرون إلى أصواتهم الداخلية دائما كأعداء، وبالتالي الحكم على أرائهم بشكل متحيز، بدلا من النظر إليهم كمساعدين مستشارين.

وهذا ما كانت تفعله إليانور، حينما كانت تتصارع مع المتحدثين داخلها طوال الوقت من أجل إخراسهم، إلا أن هذا الأمر كان يزيد من تأجيج حربها النفسية، قبل أن تتعلم بناء "ديموقراطية سلام" في داخلها، كما تقول، حيث تمنح فيها الفرصة لجميع الأصوات بالإدلاء برأيها، لكن دون أن تسمح لهم أبداً بإملاء شيء ما لا تريد القيام به، وهكذا تدخل مع أصوات رأسها في عملية تفاوضية هادئة، للوصول إلى نتيجة ترضي الجميع. وعندما تصبح بعض الأصوات داخلها متطفلة، أو تتحدث في الوقت غير المناسب، تطلب منهم أن يكونوا هادئين بطريقة هادئة ومحترمة!

يُخطئ الناس في الحكم على الأصوات التي تُسمع في الرأس، فيعتبرونها أمرًا سلبيًا ولا يتعاملون معها بإيجابية ويستفيدون منها

تذكر إليانور أن من بين التقنيات التي استعملتها في العلاج، هي أنها قامت بخلق أصوات داخلية إيجابية جديدة بإرادتها، للحد من نفوذ الأصوات المزعجة، وهكذا وصلت إلى وحدة ذاتية متعددة الرؤوس، لكنها تعمل بشكل منسجم لصالح الذات الأساسية.