لم تعد المخاوف من نشوب حرب أهلية في إسرائيل حديثَ المعارضة فحسب، بل أضحى التخويف من خطر هذه الحرب موضوعَ حديثٍ لدى وزراء نتنياهو، مع فارقٍ موضوعي بين الطرفين؛ فالمعارضة تحمّل مسؤولية هذا التهديد الوجودي لدولة الاحتلال لسياسات نتنياهو الحربية والاستبدادية، بينما يعتبر وزراء الحكومة أن تجريد نتنياهو من منصبه على رأس الحكومة هو ما سيعجّل بسيناريو الحرب الأهلية في إسرائيل.
في أحدث تصريحٍ حول سيناريو الحرب الأهلية، قال وزير التعاون الإقليمي عن حزب الليكود، دودي أمسالم: "إنّه في حالة إعلان القضاة تجريد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من منصبه بحجّة تعذّره القيام بمهامه، سيكون ذلك انقلابًا على السلطة وحربًا أهلية"، مشددًا على أن وقوع هذا السيناريو "سيؤدي إلى حرب جدالات ومواجهات جسدية بين المواطنين، وحينها قد يتطور الأمر في مرحلة لاحقة إلى المواجهة بالأسلحة".
وفي تهديدٍ صريح من الوزير عن حزب الليكود للقضاء، قال أمسالم إنّ حزبه والحكومة لن "يسمحا بحدوث ذلك"، مضيفًا: "أعتقد أن هذا يمكن أن يؤدي أيضًا إلى منع القضاة من دخول أماكنهم، ويمكن أن يقوم الجمهور بأمور أخرى بشكل عفوي. إذا قرر القضاة إعفاء رئيس الحكومة من منصبه، وبهذا يكونون قد هدموا الديمقراطية، فيمكن ألا يدخلوا مكاتبهم. يمكن للناس أن يأتوا ويغلقوا المدخل. لا مشكلة. يمكننا الانتقال إلى مرحلة أخرى وأخرى".
يمثل نتنياهو أمام المحكمة للإدلاء بأقواله حول تهم الفساد التي تلاحقه
وجاءت تصريحات أمسالم عقب تقديم المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهراف ميارا، موقفها إلى المحكمة العليا بشأن الالتماس الذي يطالب بإعفاء رئيس الوزراء مؤقتًا من منصبه أثناء تقديم شهادته في قضايا الفساد المتهم فيها. فعلى الرغم من أن المستشارة القضائية رفضت الالتماس، إلّا أنها قالت إنه "يجب على رئيس الحكومة توضيح ما إذا كان منصبه العام سيؤدي إلى عدم إدارة المحاكمة بشكل صحيح".
يشار إلى أنّ عددًا من وزراء نتنياهو وقّعوا عريضةً تطالب نتنياهو بإقالة المستشارة القضائية للحكومة على خلفية مواقفها من التحقيقات مع نتنياهو ومكتبه في القضايا الأمنية الأخيرة.
يذكر أنّ نتنياهو رفض بشدّة الالتماس الذي يطالب بإعلان تعذّره عن رئاسة الحكومة مؤقتًا، مدّعيًا في ردّه أمام المحكمة العليا أنّ الالتماس ليس إلّا "محاولة خطيرة للغاية لجر النظام القضائي إلى الملعب السياسي وجعله يقرر، خلافًا للقانون وخلافًا لقرار المؤسسات الديمقراطية المنتخبة، ما إذا كان رئيس الوزراء يمكنه الاستمرار في منصبه".
ومن المتوقع أن يبدأ نتنياهو تقديم شهادته في قضايا الفساد التي تطارده في العاشر من كانون الأول/ديسمبر الجاري في المحكمة المركزية في تل أبيب. وتم اختيار هذا المكان بناءً على توصية من الشاباك لأسباب وصفها جهاز المخابرات الإسرائيلي بأنها أمنية. ومن المقرر أن يجلس نتنياهو ثلاث مرات في الأسبوع أمام المحكمة، على الرغم من مطالبته تقليص الجلسات إلى جلستين فقط في الأسبوع.
حرب أهلية في الأفق
سبق للمحلل الإسرائيلي، بن كاسبيت، أن اعتبر في مقال له على صحيفة معاريف أن إسرائيل ليست على حافة الفوضى، بل هي في حالة الفوضى. وجاء هذا التقييم تفاعلًا مع مقاطع الفيديو التي أظهرت مئات المدنيين وهم يحاولون هدم بوابات القواعد العسكرية بدعمٍ من أعضاء الكنيست، على خلفية التحقيق مع جنود متهمين بالاعتداء الجنسي على أسيرٍ فلسطيني. وقد اعتبر بن كاسبيت تلك الاقتحامات "رمزًا على حالة التفكك في المجتمع الإسرائيلي"، وأضاف: "عندما تقوم بتحرير شيطان من الزجاجة، فإنك تفقد السيطرة عليه"، مشيرًا إلى أن "نتنياهو قال إننا على بعد خطوةٍ واحدة من النصر الكامل، لكننا اكتشفنا أننا على بعد خطوةٍ واحدةٍ من الحرب الأهلية".
سبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن صرّح في الثامن عشر من حزيران/يونيو قائلًا: "لن تكون هناك حرب أهلية في إسرائيل"، لكن نتنياهو قد يكون مخطئًا في تقديراته تلك، حسب موقع "كاونتر بانش" الأميركي.
يشار إلى أن تصريح نتنياهو آنف الذكر جاء في سياق الاحتجاجات الشعبية المتزايدة في إسرائيل، خاصة بعد الاستقالات التي طال انتظارها من العديد من وزراء الحرب الإسرائيليين، مثل بيني غانتس وغادي آيزنكوت، وكلاهما رئيسان سابقان للأركان في الجيش الإسرائيلي. ولم تؤدِ هذه الاستقالات بالضرورة إلى عزل نتنياهو، إذ إن شعبية الرجل تعتمد بالكامل تقريبًا على دعم اليمين واليمين المتطرف.
ومع ذلك، فقد أوضحت هذه الخطوة الانقسامات العميقة والمتنامية في المجتمع الإسرائيلي، التي يمكن أن تنقل البلاد في نهاية المطاف من حالة الاضطراب السياسي إلى حالة الحرب الأهلية الفعلية.
ولا يمكن النظر، وفقًا للموقع الأميركي، إلى الانقسامات في إسرائيل بالطريقة نفسها التي ننظر بها إلى الاستقطابات السياسية الأخرى المنتشرة حاليًا في الديمقراطيات الغربية. ولا يرتبط هذا التأكيد بالضرورة، وفق الموقع، بوجهة النظر المشروعة القائلة بأن إسرائيل، في جوهرها، ليست ديمقراطية فعلية، بل يرجع ذلك إلى حقيقة أن التكوين السياسي لإسرائيل فريد من نوعه.
ستكون إسرائيل بنسختها المتطرفة هذه أكثر استبدادًا مع مواطنيها، وكذلك مع الفلسطينيين الذين تشن حكومة نتنياهو حرب إبادة جماعية مفتوحة ضدهم
جذور الصراع العميق
في شباط/فبراير 2019، شكّل زعماء ثلاثة أحزاب إسرائيلية ائتلاف "أزرق أبيض"، وهم يائير لابيد، وبيني غانتس، وموشيه يعلون. والأخيران عسكريان سابقان يحظيان باحترام واسع النطاق في المؤسسة العسكرية القوية في البلاد، وبالتالي في المجتمع ككل.
وعلى الرغم من نجاحاتهم الانتخابية النسبية، فإنهم ما فتئوا يفشلون في إزاحة نتنياهو من منصبه، ولذا خرجوا إلى الشوارع.
إن نقل الصراع إلى شوارع تل أبيب والمدن الإسرائيلية الأخرى لم يكن قرارًا سهلاً، وفقًا للموقع الأميركي. لقد جاء هذا القرار في أعقاب انهيار ائتلاف حكومي غريب شكّله كل أعداء نتنياهو واتحدوا حول هدف واحد، وهو إنهاء حكم اليمين واليمين المتطرف على البلاد. وكان فشل نفتالي بينيت القشة الأخيرة.
قد يعطي مصطلحا "اليمين" و"اليمين المتطرف" انطباعًا بأن الصراع السياسي في إسرائيل أيديولوجي في الأساس. ومع أن الأيديولوجيا تلعب دورًا في السياسة الإسرائيلية، فإن الغضب تجاه نتنياهو وحلفائه تحرّكه إلى حد كبير قناعة بأن اليمين الجديد في إسرائيل يحاول إعادة تشكيل الطبيعة السياسية للبلاد.
لذلك، ابتداءً من كانون الثاني/يناير 2023، أطلق مئات الآلاف من الإسرائيليين احتجاجات جماهيرية غير مسبوقة استمرت حتى بداية الحرب الإسرائيلية على غزة. كان المطلب الجماعي الأولي للمحتجين، بدعمٍ من غانتس وأبرز القادة العسكريين الإسرائيليين والنخب الليبرالية، هو منع نتنياهو من تغيير توازن القوى السياسية الذي حكم المجتمع الإسرائيلي على مدى السنوات الخمس والسبعين الماضية. لكن مع مرور الوقت، تحولت المطالب إلى دعوة جماعية لتغيير النظام.
وعلى الرغم من أن هذه القضية نوقشت بشكل كبير في وسائل الإعلام باعتبارها صدعًا سياسيًا ناتجًا عن رغبة نتنياهو في تهميش المؤسسة القضائية الإسرائيلية لأسباب شخصية، إلا أن جذور الأزمة، التي تهدد بحرب أهلية، أعمق من ذلك بكثير.
إن قصة الحرب الأهلية الإسرائيلية المحتملة قديمة قدم الدولة الإسرائيلية نفسها، والتعليقات الأخيرة التي أدلى بها نتنياهو، التي تشير إلى خلاف ذلك، ليست إلا ادعاءً كاذبًا آخر من جانبه.
في الواقع، في السادس عشر من حزيران/يونيو، انتقد نتنياهو الجنرالات العسكريين المتمردين، قائلاً: "لدينا دولة لديها جيش، وليس جيش لديه دولة". في الحقيقة، تأسست إسرائيل من خلال الحرب، واستمرت من خلال الحرب أيضًا.
تفكك التوازن القديم
منذ البداية، تمتع الجيش الإسرائيلي بمكانة خاصة في المجتمع الإسرائيلي، حيث كان يتمتع باتفاقٍ غير مكتوب يمنح جنرالات الجيش دورًا مركزيًا في عملية صنع القرار السياسي في إسرائيل. شخصيات مثل آرييل شارون وإيهود باراك، ومؤسس إسرائيل ديفيد بن غوريون، جميعهم وصلوا إلى قمة السياسة الإسرائيلية بسبب انتماءاتهم العسكرية.
لكن نتنياهو غيّر هذا النظام عندما بدأ في إعادة هيكلة المؤسسات السياسية الإسرائيلية بشكل نشط لإبقاء الجيش هامشيًا وغير متمكن سياسيًا. بذلك، انتهك نتنياهو الركيزة الأساسية للتوازن السياسي في إسرائيل منذ عام 1948.
حتى قبل انتهاء إسرائيل من عمليات التطهير العرقي للشعب الفلسطيني خلال النكبة، دخلت الدولة الوليدة تقريبًا في حرب أهلية. عندما أصدر بن غوريون أمرًا بتشكيل قوات الدفاع الإسرائيلية في 26 أيار/مايو، قاومت بعض الميليشيات الصهيونية، مثل "الإرغون" و"ليحي" - عصابة شتيرن - للحفاظ على درجة من الاستقلال السياسي.
كانت تلك بداية ما يسمى بقضية "ألتالينا"، عندما حاول جيش الدفاع الإسرائيلي، الذي تهيمن عليه "الهاغاناه"، منع شحنة بحرية من الأسلحة كانت متجهة إلى منظمة "الإرغون"، بقيادة مناحيم بيغن، الذي أصبح لاحقًا رئيس وزراء إسرائيل. وكانت المواجهة دامية، وأدت إلى مقتل العديد من أعضاء الإرغون واعتقالات جماعية وقصف السفينة نفسها.
الإشارة إلى قضية ألتالينا تتردد بشكل متزايد في النقاشات الإعلامية الإسرائيلية هذه الأيام، حيث أدت الحرب الإسرائيلية على غزة إلى تعميق الانقسامات القائمة في المجتمع الإسرائيلي. هذه الانقسامات أجبرت الجيش على التخلي عن التوازن التاريخي الذي أُرسِيَ بعد الحرب الأهلية المصغّرة، التي كانت تهدد وجود إسرائيل بعد أيام فقط من تأسيسها.
مستقبل غامض
الصراع الإسرائيلي الداخلي بشأن غزة لا يدور فقط حول غزة أو حماس أو حزب الله، بل يتعلق أيضًا بمستقبل إسرائيل ذاتها.
إذا وجد الجيش الإسرائيلي نفسه كبش فداء لأحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والحملات العسكرية الفاشلة التي تلتها، فقد يجد نفسه أمام خيارين: قبول تهميشه إلى أجل غير مسمى أو الصدام مع المؤسسة السياسية. إذا تحقق الخيار الأخير، فإن الحرب الأهلية قد تصبح احتمالًا حقيقيًا.