08-فبراير-2020

تطور التقليلية من مهارات التحكم والتمكين الذاتي (أ.ب)

يسود اعتقاد بأن المادة إن لم يكن فيها سر السعادة، فإنها على الأقل تجلب السعادة. وفي مقابل هذا الاعتقاد، نشأ مبدأ التقليلية أو التبسيطية (Minimalism)، أو بالأحرى "العيش بالقليل"، مقدمًا نظرة نقدية للطريقة التي نعيش بها، وبديلًا يزعم أنه أكثر سعادة وقيمة.

الأشخاص الذين يضعون قيمة أكبر للثروة والمكانة والممتلكات المادية، لديهم ميل أكبر للإصابة بالاكتئاب أو الانعزالية

يُعتقد أن التقليلية بدأت مع البوذية منذ قرون طويلة، فهما يشتركان في عديد من المبادئ مثل التخلي عن التعلق بالأشياء، وزيادة التركيز وتطوير مهارات التحكم في النفس، فالرهبان البوذيون يعيشون حياة بسيطة، نظرًا لأن مبادئ التقليلية تتناسب مع إيمانهم، فهم يؤمنون بأن لا شيء دائم، وأن كل تشبث بالأغراض أو العلاقات أو حتى الأفكار، يشكل رغبة وتعلّق مذموميْن، أي ما يمثل أساس كل معاناة، وأن سر السعادة هي ببساطة أن نرغب في أشياء أقل.

اقرأ/ي أيضًا: المينيماليزم.. الزهد على طريقة الرأسماليين

لذا يقال إن دولة بوتان الصغيرة، التي تسودها البوذية، هي الأسعد في العالم، فقد رفضت قياس مدى سعادة سكانها بالناتج المحلي الإجمالي باعتباره الطريقة الوحيدة السائدة لقياس التقدم والرفاهية، واتبعت بدلًا من ذلك نهجًا جديدًا يقيس الرخاء من خلال السعادة الوطنية الإجمالية والصحة الروحية والبدنية والاجتماعية والبيئية لمواطنيها، وبيئتها الطبيعية.

المال لا يشتري السعادة

تخيل أنك ربحت اليانصيب، على الأرجح ستعتقد أنك الآن أكثر سعادة، فالكثير من الناس يظنون أن امتلاك ما يكفي ويفيض من المال سيجعلهم أكثر سعادة، لكن وفقًا لدراسة علمية فيمكن للمال شراء السعادة قصيرة الأجل فقط، لكن ستعود بعدها إلى مستوى سعادتك قبل ربح اليانصيب، ما يجعلك تدور في حلقة مفرغة من شراء الأشياء المادية التي لست في حاجة إليها، من أجل تحقيق سعادة طويلة الأجل، وهو ما لن يحدث. 

ويقودنا الاعتقاد بأن المال يشتري السعادة، إلى الحكم على الأشخاص بمقدار ما يمتلكون من ثروة مادية، رغم أن ذلك، علميًا، ليس أصوب شيء، فالمهم هو ليس كيف تجني المال، وإنما كيف تنفق ما لديك منه. 

ووجدت دراسة علمية أن إنفاق الأموال على الآخرين له تأثير أكثر إيجابية على المرء من إنفاق الأموال على نفسه. كما أن الأشخاص الذين يضعون قيمة أكبر للثروة والمكانة والممتلكات المادية، لديهم ميل أكبر للإصابة بالاكتئاب أو الانعزالية.

لذا ما تعنيه التقليلية أو التبسيطية، هو إعادة تقييم أولوياتك، بحيث يمكنك التخلص من الممتلكات والأفكار والعلاقات والممارسات التي لا تحقق قيمة لحياتك، وحينها ستجد سعة في وقتك ومالك بحيث يمكنك فعل الكثير من القليل، وستجد أنك لم تعد تضيع الأموال على هراء، أو وقتك الإضافي على علاقات تستنزفك، وإنما تنخرط في مزيد من التجارب التي تجلب لك السعادة، إذ إنّ التجارب الجديدة تطلق هرمون الإندورفين المسؤول عن السعادة.

ولا يعني هذا أن الممتلكات المادية سيئة في حد ذاتها، لكن امتلاك الكثير من الأشياء بما يراكمها، وبما قد يراكم الديون أيضًا بسببها، هو الأمر السيء نفسيًا على الأقل، لذا فإن التبسيطية معنية بالتركيز على الأشياء التي تعزز حياتنا وتدعم معنوياتنا.

ولا تقتصر فلسفة المينيماليزم على التخلص من الممتلكات المادية فحسب، وإنما يمكن تطبيقها في جميع مجالات الحياة، مثل العلاقات والتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي والصحة والتعليم والعواطف وغيرها، فالتبسيطية لا تنظم كيفية إنفاق أموالنا فقط، بل كيفية استخدام وقتنا، والاهتمام بذواتنا. 

كيف تبدأ؟

كل ما عليك فعله للبدء هو التخلص من كل شيء مضى عليه عام على الأقل دون استخدامه. يمكنك مثلًا أن تتبرع به، وهذا نشاط قد يحقق لك الشعور بالسعادة، فوفقًا لاستطلاع بحثي فإن الذين تبرعوا بمتعلقاتهم وحتى بأوقاتهم، أكثر سعادة وصحة جسدية، وأقل توترًا من غيرهم. كما اكتشفت باحثة بريطانية أن الذين يتبرعون للجمعيات الخيرية يتمتعون بمستويات منخفضة من ضغط الدم.

الخطوة الثانية، بعد أن تتخلص من كل ما لا يلزمك، هي التفكير في الأشياء الرائعة التي تمتلكها بالفعل. والخطوة الأخيرة، هي التوقف عن شراء ما لا يلزم، فجميعنا انخرطنا في الشراء بدافع التخلص من الملل، أو لتحسين مزاجنا، واشترينا بتهور، أو بسبب ضغط الآخرين. لذا ربما حان الوقت لنفكر بطريقة أكثر وعيًا بشأن ما نضعه على أجسادنا وفيها وما نضعه في بيوتنا.

فكر في الأمر بمنظور مختلف، فكل شيء تشتريه، مثل أريكة جديدة، يستهلك موارد ثمينة من الكوكب لا يمكن تعويضها، كما أنه من جهة أخرى يتسبب في التأثير سلبًا على الكوكب بتحولها لشكل من أشكال التلوث، فضلًا عما تستهلكه من طاقة وما تصدره من انبعاثات خلال إنتاجها.

كما أن كل مال تنفقه يعني مزيدًا من الوقت في العمل، بدلًا من قضاء هذا الوقت في عمل شيء تحبه. هنا تكمن المفارقة: أليس من الأفضل أن نعمل أقل؟ إذًا، فهم ماهيّة الرغبة في الحصول على الأقل تمثل المفتاح، فعندما ندرك أن امتلاك الأشياء لن يجعلنا على الحقيقة أكثر جاذبية أو سعادة، سنركز أكثر على أمور مثل التواصل مع الآخرين، وتمضية الوقت في أمور نحبها.

مزيد من الوقت والمال والحرية

سيكون لديك مزيد من الوقت والطاقة والمال لإنفاقه على ما يهمك حقًا من العلاقات والأماكن والأنشطة التي تحقق لك شعورًا إيجابيًا. ستوفر المزيد من المال لسداد ديونك، والانخراط في المزيد من التجارب الحياتية الحقيقية، فتقليل الاستهلاك  يعني وقت تسوق أقل، ووقت فراغ أكبر تقضيه على الأشياء التي تهم حقًا، مثل الاهتمام بالصداقات، والتواصل مع العائلة، والتفاعل مع الأشخاص من حولك.

الاستهلاكية

كما أن الدراسات تثبت أن التجارب مثل السفر، تجلب لنا مزيدًا من السعادة أكثر من الأشياء المادية، لأن التجارب الجيدة تعيش كذكريات مستقرة. ومن المثير للاهتمام، أن العديد من الأبحاث، تظهر أنه حتى انتظار التجربة، يحقق مزيدًا من الشعور بالرضا والسعادة، أكثر من انتظار شراء سلعة ما.

كما أن امتلاك أشياء أقل يعني تكاليف صيانة أقل، وتقليل الالتزامات المادية يعني قلق أقل، وامتلاك القليل من الأثاث على سبيل المثال، يعني مساحة أكبر للحركة بحرية وسهولة أكبر في التنظيف.

علاوة على ذلك، تعلمك التقليلية التفكير في عمليات الشراء، والتكلفة الإجمالية، والآثار طويلة الأجل، وطرح الأسئلة الصحيحة عما نشتريه ونضعه في منازلنا، والتفكر مليًا في كيفية بناء حياتنا، الأمر الذي يطور لدينا مهارات التحكم والتمكين الذاتي. فضلًا عن أن الاستغناء عما لا يلزمك يبني الثقة بالنفس، فالنجاح في إحداث تغيير كبير في الحياة يبني الثقة في مواجهة أحداث أخرى بها.

وجدير بالذكر أن التقليلية لا تتطلب طريقة معينة للممارستها، أو وقت محدد، فيمكنك أن تقوم بها وفقًا لظروفك ووقتك الخاص وسرعتك ومستوى راحتك.

إيجابيات.. ولكن

مع كل هذه الإيجابيات، ليس من السهل تطبيق التقليلية في الحياة، فهي تتطلب انضباطًا وصحة عقلية قوية، وقد تدفعك إلى تضييع وقتك في الهوس بالحفاظ على ممتلكاتك ضمن حد معين، بدلًا من متابعة حياتك. وقد يتملكك الغرور بسببها، أو يظن الناس أنك غريب الأطوار بسبب نمط حياتك، لذا فقد تؤدي لخسارتك بعض العلاقات.

المينيماليزم
قد تفاقم المينيماليزم من تعلقك بالأشياء من جهة زهدك فيها

ويحدث أحيانًا أن يفقد المنخرط في فلسفة المينيماليزم، المعنى الحقيقي للتبسيطية، وتخرج الأمور عن نطاق السيطرة، ما قد يجعله غير راضٍ، مع شعور متفاقم بالحرمان، أو أن يزداد لديه إحساس الخوف من فقدان الحصول على الأشياء الجديدة، ما يزيد من تعلقه بالأشياء، من جهة زهده فيها.

قد تدفعك فلسفة المينيماليزم إلى الهوس، وقد يتملكك الغرور بسببها، وقد تفاقم من تعلقك بالأشياء من جهة زهدك فيها

يقول الخبراء في هذا الصدد، إن السر يكمن في إيجاد التوازن الصحيح الذي يتناسب مع ظروفك وتفضيلاتك الشخصية، وأن تفعل ذلك تدريجيًا، وألا تتعجل في التخلص من كل الأشياء مرة واحدة، ولا تضغط نفسك في محاولة مواكبة نمط التقليلية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكانة الذات في النظم الاستهلاكية

عن أحجبة الاستهلاك وطبائع الاستملاك