07-مارس-2018

يامل لوبيز/ تشيلي

أشعلت المواقف السلبيّة لبعض المثقّفين العرب من ثورات الربيع العربيّ جدلًا واسعًا وأسئلة تدور حول الأسباب التي دفعتهم لاتّخاذ هذه المواقف، لا سيما أنّ مواقفهم السابقة كانت تدعو إلى التغيير والتحرّر. في هذا السياق، يأتي كتاب "المثقّف العربي ومتلازمة ميدان تيانانمن" (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات) لمؤلّفيه عمرو عثمان ومروة فكري، ليقدّم إجابات واسعة حول تلك الأسئلة، وتفسيرات لتلك المواقف السلبيّة.

وضع المثقّف في المجتمع في بيئة ديمقراطيّة ليبراليّة يختلف بالضرورة عن دور المثقّف في بيئة سلطويّة أو شموليّة

تهدف هذه الدراسة إلى تبيان فرضية المؤلّفين بأنّ المثقّف العربي مصاب بـ متلازمة ميدان تيانانمن، والتي تعني، في إيجاز شديد، نُخبوية المثقّفين وما يصاحبها من ازدراء لطبقات الشعب الأخرى. وتنطلق هذه الفرضية من ملاحظة المؤلّفين لوجود تشابه كبير بين الموقف السلبي للمثقّفين العرب من الثورات العربيّة، والموقف النخبوي لمثقّفي الصين. إذ أنّ موقفهم كان مُبرّرًا بأنّ طبقات الشعب الأخرى من غير المثقّفين غير قادرة على ممارسة الديمقراطيّة.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة وكتاب "في نفي المنفى": الحرية مبدأ

قبل الخوض في غمار تبيان العلاقة بين المثقّف العربي والمتلازمة، يؤكّد الكاتبان ضرورة تعريف المثقّف أولًا، وبناءً على ذلك، يعرضان في الفصل الأوّل من الكتاب "المثقّف وهويته الفردية والمجتمعيّة" مجموعة من التعريفات للمثقّف باعتباره كيانًا مستقلًا من جهة، وعضوًا في المجتمع من جهة أخرى. ويُخضع الباحثان تلك التعريفات إلى مناقشاتٍ جدّية تعمل على إظهار الفوارق ومواطن الاختلاف فيما بينها.

ينصّ التعريف الأوّل على أنّ المثقّف هو الشخص الحاصل على شهادة تعليميّة نظرًا لتلقيه قدرًا معيّنًا من التعليم. بينما نجد في تعريفٍ آخر أنّ المثقّف هو كلّ شخص غير أُمّي. وهناك من يقول إنّ المثقّف هو العامل في مجالات الفكر المختلفة. بالإضافة إلى من يرى أنّ المثقف أيضًا هو من يُنتج الثقافة والأفكار أو ينقلها، على أن يكون مهتمًّا في الوقت نفسه بالقضايا العامّة.

ويُشير المؤلفان عمرو عثمان ومروة فكري إلى أنّ أبرز إشكاليّات تعريف المثقّف تكمن في الخلط بين التعريف القيمي المعياري للمثقّف، ودراسة مجموعة من المثقّفين في سياق زماني ومكاني محدّد دون العمل على تحديد الأسس التي دعت إلى اعتبارهم مثقّفين.

وهنا، وفي سياق البحث عن تعريفٍ يتجاوز تلك الإشكاليّات، يقدّم الباحثان تعريفًا لعالم الاجتماع إدوارد شيلز الذي يرى أنّ المثقّف هو من يستطيع التعالي على مواقف الحياة اليوميّة ليرى ما وراءها. ومن يملك أيضًا القدرة على التفكير العقلاني الممنهج، ويمارس دوره في الشأن العام ويتفاعل مع قضايا الدولة والمجتمع اعتمادًا على ثقافته العامّة ومعرفته الشاملة.

المثقف العربي ومتلازمة ميدان تيانانمِن

يتناول المؤلفان بعد ذلك المثقّف باعتباره فردًا عاملًا في المجتمع، وذلك من خلال دراسته في سياقه الزماني والمكاني انطلاقًا من كون دوره وقدرته على التفاعل والتأثير في بيئته تخضع إلى عدّة عوامل، لا سيما تلك المتعلّقة بالحريّات العامّة واستقرار المجتمع. حيث إنّ وضع المثقّف في المجتمع في بيئة ديمقراطيّة ليبراليّة يختلف بالضرورة عن دور المثقّف في بيئة سلطويّة أو شموليّة (ص 33). بالإضافة إلى مقدار الطبقة المتعلمة والمستهلكة التي تشكّل داعمًا أساسيًا للمثقّفين على الإنتاج، وتتيح له الاستقلالية عن السلطة، ولذلك.

أمّا فيما يخصّ علاقة المثقّف بطبقات المجتمع، يقول تشارلز كورزمان ولين أوونز أنّها تتحدد من خلال ثلاثة اتّجاهات أساسيّة. ويرى الاتّجاه الأوّل أنّ المثقّفين يمثّلون طبقة في أنفسهم، وذلك لعدم ارتباطها بوسائل إنتاج معيّنة من جهة، وتعبيرها عن مصالح المجتمع بصفة عامّة لا عن مصالح أفراد وطبقات من جهة أخرى.

أمّا الاتّجاه الثاني، فيرى أنّ المثقّف مرتبط بطبقة بعينها من الطبقات المنتشرة في المجتمع، إذ إنّ طبقة المثقّفين تنشأ بالضرورة في حال نشوء طبقة اجتماعيّة من خلال نشاط إنتاجي ما. بينما يرى الاتّجاه الثالث والأخير أنّ المثقّفين لا ينتمون إلى أي طبقات، وذلك لأنّ المثقّف يتجاوز الطبقات من خلال نشاطه الفكري، أي أنّ التعليم يسمح له أن يرتبط بطبقة غير تلك التي نشأ فيها أصلًا.

يقول عمرو عثمان ومروة فكري أنّ هناك إجماعًا على أنّ المثقّف متمرّد بطبيعته وينزع دائمًا للتغيير، بيد أنّه أيضًا يقف ضدّه وينزع إلى المحافظة على الأوضاع القائمة انطلاقًا من كون التغيير يُفقده المكانة التي حصل عليها في ظلّ وضع ما ونظام معيّن.

وبالتالي، وبحسب عالم الاجتماع لويس كوزر، لا يمكن أن تخرج علاقة المثقّف بالسلطة على خمس حالات، وهي أن يكون المثقّف ممتلكًا للسلطة، أو مستشارًا لها، أو مبررًا أو ناقدًا أو ساعيًا إلى إضعافها وإسقاطها.

المثقّف متمرّد بطبيعته وينزع دائمًا للتغيير، بيد أنّه أيضًا يقف ضدّه انطلاقًا من كونه قد يُفقده المكانة التي حصل عليها في ظلّ وضع ما

ينتقل الباحثان في الفصل الثاني من الكتاب "المثقّف العربي والديمقراطيّة" إلى الفكرة الأساسيّة من هذا الدراسة "هل المثقّف العربي مُصاب بمتلازمة ميدان تيانانمن؟". وهنا يقدّمان أوّلًا عرضًا تاريخيًا لعلاقة المثقّف العربي بالديمقراطيّة، والتي تؤكّد أنّ الديمقراطيّة الشعبيّة، وفقًا لتعريف هذه الدراسة لها، لم تكن من القضايا الأساسيّة التي شغلت المثقّفين العرب في عصر النهضة العربيّة، وأنّها استبدلت بالحريّة التي تعني الديمقراطيّة النخبويّة، وذلك إمّا لعدم اقتناع بعض المثقّفين بها كوسيلة إصلاح، أو بسبب اليأس من إمكان تحققها في ظلّ بيئة من الاستبداد السياسي الكامل والقمع الأمني الشامل في أغلبية الدول العربيّة.

اقرأ/ي أيضًا: قطار العلويين السريع.. البحث عن هوية جامعة

يستعرض عمرو عثمان ومروة فكري بعد ذلك 248 مقالةً منشورة في دوريّة "الديمقراطيّة" المصريّة من أجل تبيان علاقة المثقّف العربي بالديمقراطيّة، والخروج بإجابةٍ حول ما إذا كان مصابًا بمتلازمة تيانانمن أم لا. ثمّ عملا بعد ذلك على فرزها وفق مضمونها، وتحليل القضايا التي تناولتها تحليلًا كميًا وكيفيًا.

يُشير الكاتبان في نتائج تحليلهما الكيفي إلى وجود ثلاث تيارات أساسيّة للمثقّفين العرب المعاصرين في ما يتعلّق بالديمقراطيّة، وهي "تيار الديمقراطيّة الليبراليّة"، و"تيار الديمقراطيّة الشعبيّة"، و"تيار المشاركة".

يعتمد التيار الأوّل "المفهوم الليبرالي للحريّة"، وتعدّ الحريّة الفرديّة بالنسبة إلى أنصاره شرطًا ضروريًا لوجود الديمقراطيّة وتفعيل عناصرها الأخرى. وأنّها تنتج في نظرهم انطلاقًا من تنامي الحقوق والحريّات، لا من وجود تلك الحريّات أو منشأها.

ولا يُشجّع هذا التيار التّسرع في تطبيق الديمقراطيّة الإجرائيّة لأنّها تمكن العناصر المعادية لليبراليّة من القفز على السلطة. ناهيك عن شكّه في مستوى رشاد الشعوب وجاهزيتها لممارسة الديمقراطيّة. وذلك لخوفهما في الدرجة الأولى من اختيارات الناخبين للتيارات الدينيّة، لأنّ أنصاره يتمثّلون الأنموذج الفرنسي في العلمانية، والتي تعني "علمانية صلبة متشدّدة لا تكتفي بفصل الدولة عن الدين، بل تتّخذ موقفًا سلبيًا من التدين".

التيار الثاني "تيار الديمقراطيّة الشعبيّة" يقف على النقيض تمامًا من التيار الأوّل، ويعتبر مثقّفوه أنّ "الديمقراطيّة التمثيليّة هي النموذج الأفضل لتعبير الجماهير عن إرادتها التي تعلو بها على الحكومة التي انتخبتها" (ص 96، هامش رقم 77). وأنّ الديمقراطيّة الإجرائيّة هي الشرط اللازم لبدء تطوير البنى السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة في المجتمع.

من الثابت إصابة المثقّفين العرب بكثير من أعراض "متلازمة ميدان تيانانمن" وإن تفاوتت درجاتهم في ذلك

اقرأ/ي أيضًا: تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم

بينما يرى مثقّفو التيار الثالث والأخير أنّ الديمقراطيّة الإجرائيّة تكون زائفةً في حال لم تقترن بتمكين الفرد بصورة إيجابيّة من ممارسة حقوقه السياسيّة والعامّة على نحو يتّسق مع رغباته الحقيقيّة. وأنّ الهدف الرئيس من الديمقراطيّة والانتخابات هو تمكين الشعب. بالإضافة إلى التشكيك في جهوزية هذه النخب السياسيّة نفسها، وليس الجماهير، للديمقراطيّة.

يختتم عمرو عثمان ومروة فكري كتابهما بالقول إنّ ما تناولاه من أدبياتٍ في هذه الدراسة تشير بقوّة إلى إصابة المثقّفين العرب بكثير من أعراض "متلازمة ميدان تيانانمن" وإن تفاوتت درجاتهم في ذلك.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

العنف والسياسة.. مقاربات نقدية

7 من أهم المذكّرات السياسية العربية