02-فبراير-2022

كتاب وحجر (Getty)

دأبَ المفكرون والمثقفون منذُ عصر اليقظة العربية إلى إنزال علم السياسة من بروجه العاجية إلى عامة الناس، وبيان ما لهم وما عليهم، بعد أن كان علم السياسة من أسرار الحكم التي لا ينبغي علمها إلا لرؤساء الدولة وبطانتهم.

يعد المفكر رفاعة الطهطاوي صاحب أول دعوة لتعليم السياسة، وقد اعتقد بما يمكن أن يُسمى "ديمقراطية تعليم الفكر السياسي للمواطنين"، وقد مثلت مقولته "لولا السياسة ما قامت لنا دول، وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا" أهميةً كبيرةً للثقافة السياسية في حياة الشعوب.

مثلت مقولة الطهطاوي "لولا السياسة ما قامت لنا دول، وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا" أهميةً كبيرةً للثقافة السياسية في حياة شعوب المنطقة

إلا أن تلك الدعوات سرعان ما لقيت ارتدادات كبيرة أعادت الوضع إلى ما هو عليه وقد تأسف بعض العلماء من كون البنية الثقافية للعرب هي الشعر، فهو وإن قدم تنويرات عظيمة وتعاليم نفسية إلا أنه لا يخلو من تسميم وضعف وذلة فهو أما مدح وإما أنه غزل بحسب تعبيرهم.

اقرأ/ي أيضًا: 5 روايات عن الدكتاتورية.. من أجل فهم الأنا الأعظم

وعند الدخول في لجج التاريخ لإجراء مراجعة سريعة للأنظمة الدكتاتورية، نرى أنها تتخوف أشد التخوف من كتب الفلسفة والأخلاق والسياسية، ولذلك كان الفلاسفة فيما سبق يمثلون كبش الفداء لمجتمعاتهم، فإصدار أي كتاب فلسفي ثمنه السير إلى المقصلة، مما جعلهم ينشرون كتاباتهم بأسماء مستعارة، أو يضطرون إلى السفر إلى بلاد أخرى تفسح لهم حرية النشر.

حيث يرى عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي إنه: "إذا انتشر الوعي السياسي في المجتمع فمن الصعب السيطرة عليه بالمعاذير الشرعية أو الحجج المنطقية".

ومن هنا فصار السلطات تدعم الأدب بشتى أصنافه وصنعت من خلاله خطابها الخاص ونفت أصحاب التجارب الخاصة خارج أسوارها، فصار الأدب يلعب دورًا مشابهًا للتدين الشعبوي، من كونه أفيونًا للشعوب؛ من خلال معالجة مشاعر الغضب التي تنتج عن الاستبداد وسلب الحقوق.

في زمن الأنظمة الدكتاتورية، كان هذا الدور واضحًا، حيث كانت الأجناس الأدبية تجير لصالح خطاب السلطة، وتعبئة الجماهير، وخلق جنة للناس منسوجة من خيوط الرواية أو القصة تنسيهم واقعهم المعاش، وتكون سلوى لهم بدل الثورة على الظلم. وفِي الدول التي تشهد تحولًا ديمقراطيًا، حيث الحقائق أصبحت معلنة، صار دور الأدب هو التشويش على الحقائق والمآسي التي يعيشها الناس وخلق صورة مواربة للواقع، وهذا ربما ما يفسر، كثرة المهرجانات الأدبية وحجم ميزانياتها والجوائز التي تخصص لها، مقابل شحة كبيرة في المهرجانات والمؤتمرات العلمية التي تفتح عيون الناس على المشاكل التي تغرق بها بلدانهم.

عدم التوازن الفج هذا القى بظلاله حتى على سوق الكتاب حيث نلاحظ ان الكتب الأكثر مبيعًا تكون في مجال الادب، أما الكتب الفكرية والعلمية فيأكلها الغبار على رفوف المكتبات. هذا فضلًا أن الشاب العربي وفي سباق السعي إلى المكانة ومواءمة الجو الذي يعيش فيه، صار يعمل على أن يكون أديبًا نائيًا بنفسه عن ساحات المشاكل السياسية التي يشهدها بلده.

علي الوردي: "إذا انتشر الوعي السياسي في المجتمع فمن الصعب السيطرة عليه بالمعاذير الشرعية أو الحجج المنطقية"

اقرأ/ي أيضًا: رواية "روح أبي تصعد في المطر".. صورة بانورامية لحياة الأرجنتين

وهذا ما تتمناه السلطة إذ يقول المفكر عبد الله العروي: "يعيش المرء طوال حياته، وحتى مماته، دون أن يتساءل مرة واحد عن مضمون الدولة، ذلك ما يقع بالفعل لأغلبية الناس، وذلك ايضًا ما يتمناه أصحاب السلطة".

حول هذا الموضوع الجدلي كانت هناك عدة آراء من مثقفين ونقّاد وكتاب عرب تباينت رؤاهم وأفكارهم حياله.


خضر الآغا: ثمة ثقافة تقاوم الاستبداد

الثقافة العربية الحديثة "الحداثية" هي ثقافة استعلاء وتكبّر، نشأت واستمرت ضمن الكتب والأفكار بعيدة عن الناس ومعاناتهم وتطلعاتهم، وكان تبريرها ذلك أن الناس رعاعيون ومتخلفون وهمج، وعندما لم تجد قراء لها، اتهمت الناس بالأمية الثقافية وبأنها لا تقرأ ولا تفكر. وقد وجد النظام السياسي العربي في هذه الأفكار منجمًا ذهبيًا منتجًا، فأشاعها وتبناها بوصفها نظامًا ثقافيًا رديفًا له. وبالفعل، فباسم هذه الأفكار وتحت تبريرها شنّع على الناس وقمعهم واضطهدهم بلا هوادة، إذ أنهم رعاعيون ومتخلفون وهمج لا يقرؤون ولا يفكرون! وقد تجلت غالبًا تلك الثقافة بالشعر الحديث أو الحداثي، فحاولوا جعله أشبه بدين شعبي عبر الإكثار من كتابته ونشره والتنظير له والتشبيح على من يرفضه أو ينتقده، إلا أنه دين لا يقول شيئًا ولا يدعو لشيء، في محاولة للمحافظة على الواقع كما هو: ناس همج، ونظام يقمع، محقًا، الهمج!

ولم تتوقف الأنظمة الاستبدادية عن جعل الثقافة، بأشكالها، ثقافة سلطة. والمهرجانات الأدبية واحدة من أساليب السلطة في صناعة التوجهات والميول والانحيازات. لكنني أومن أنه مهما تمادت ثقافة الاستبداد ونظامها السياسي على الفضاء العام واحتكرته، فثمة ثقافة أخرى تنشأ بالتوازي معها وتقاومها. دعنا نتذكر الاستقصاءات المهمة لإدوارد سعيد وتأكيده على أن خطاب التحرر ينشأ مواجِهًا خطاب الهيمنة على طول الوقت في الفكر والفلسفة والأدب.

كما أعتقد أيضًا أن الاستبداد يهمه إظهار رسالة واحدة للخارج والداخل وهي أنه قادر على الهيمنة والاحتواء والقمع، وذلك ما يريده منه الخارج لدوام سلطته.

خضر الآغا (شاعر وناقد من سوريا)

الأدب في حقيقته يتطلب تفكيرًا عاليًا ومثقفًا. إلا أن لجوء الناس إلى الأدب كشكل ثقافي وحيد وابتعادهم عن ميادين الفكر والفلسفة هو ما جعلهم يقرؤون الأدب كنوع من السياحة القرائية والتسلية فقط. في أزمان الشدة والقهر، وهذا ما يعيشه أهالي المنطقة والعرب عمومًا منذ أكثر من نصف قرن، يلجأ الناس إلى الدين كحالة خلاصية، وثمة من يلجأ فعلًا إلى الأدب، وفي هذه الحالة يكون الأدب دينًا أيضًا، لكنه ليس خلاصيًا، بل هروبي. يبحثون عن أنبياء في الأدب مثلما أن في الدين أنبياء، لكن اكتفاءهم بقراءة الأدب، يجعلهم غير قادرين على تمييز "رسالة" الأدب، وأنها يمكن أن تكون احتوائية وتسعى إلى الهيمنة أيضًا!

ولو أن لي سلطة على الثقافة لألغيت المهرجانات، وكذلك الجوائز، أو أقله جعلت الجائزة مجرد مساعدة مالية للكاتب وليست قيمة معيارية وتراتبية.

فحتى نستمتع بقراءة الأدب حقًا، علينا أن نقرأ غيره من نظريات أدبية وفلسفة وفكر وما إلى ذلك.. الاكتفاء بقراءة الأدب لا تصنع ثقافة، ولا تصنع مثقفًا، ولا تنتج معرفة. حتى أقرأ رواية، مثلًا، يتوجب أن أعرف حيثياتها وحيثيات شخوصها وأحداثها، وأعرف الأنساق الثقافية التي تحمها، وأكتشف فيها خط السلطة وخط التحرر.. وهذا لا يمكن أن أتوصل إليه إلا بقراءات أخرى إضافة إلى الأدب.

علي عبد الأمير عجام: الثقافة العراقية أدبية

على الأرجح تبدو الثقافة العراقية أدبية، كتيار عام، ونادرًا ما كانت الدراسات الفكرية والبحثية العلمية جزءًا حقيقيًا فيها، أما عن المهرجانات فقد تحوّل الأدب من مؤثر شخصي وخيار ذاتي للقارىء إلى حملة "تعبئة سياسية" للسلطة وتحديدًا منذ قيام الأنظمة الجمهورية و"الوطنية" بتأميم الثقافة في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وجعلها واحدة من روافع الحكم.

والناس على هدي حكامها وقادتها، وبالتالي التأثر بما تنتجه وسائل الحكام والقادة في الدعاية والأرشاد والإعلام، وذلك دائما ما تأكل الناس طعم الصنارة التي تحركها طبقات الحكم.

ومن المعروف المجتمعات المتخلفة لا تقرأ عمومًا، وإن قرأت فهي تختار ما يناسب يقينها المتأسس على هيئة معتقدات شبه ثابتة، وفي ذلك إنما ترجّح الأدب على الفكر الذي يورث القلق والشك في كل يقين. أعتقد أن مزيدًا من حرية النتاج الفكري ورصانة المعرفة العلمية وفصل الدولة عن أي رعاية للثقافة سيتيح المجال للأجيال الجديدة في التطلع نحو المعرفة العلمية والبحث الفكري، دون ثقل الأدب وحضوره الطاغي.

علي عبد الأمير عجام (كاتب وشاعر عراقي)

محمد آدم: السياسي لدينا يبتلع الثقافي

لو قلنا إن الثقافة العربية شعرية فهذا امتياز عن غيرها وليس بالضرورة أن يترتب عليه شيء، لأن مفهوم الثقافة له سياقاته التاريخية أيضًا، إذن نحن أمام سياق تاريخي يحكم هذه المفردة. إن ما يقابل السياسي هو الثقافي ولكن السياسي لدينا يبتلع الثقافي وهنا الإشكال، فالسياسي دائمًا ما يطبع بأذهاننا ذلك "الشيطان"، فتكون السياسة دنس والتقرب منها يعني التدنس، معالجة الإشكال بنيويًا هو أن نسأل ما هو السياسي وما هو الثقافي، وكيف يتبلور المفهومان في أذهان الناس. ولكن حضور الأدب في هذه اللحظة الراهنة ليس تعويضًا وإنما تعبير عن ذلك الصراع، والذي يكون الثقافي مبتلَعًا فيه دائمًا. السلطة واحدة باختلاف الأزمنة ولكن الذي يتغير هو أدواتها، ولذلك، كثرة المهرجانات اليوم والتي تحظى بدعم من الحكومة هو محاولة لامتصاص ذلك الغضب وتصدير خطاب يبيض وجه السلطة بعد كل ما فعلته سابقًا، ولهذا ينبغي مقاطعة هذه المهرجانات مشاركة وحضورًا.

محمد آدم (كاتب من العراق)

أما عن نزوح الناس من ساحات الفكر إلى الأدب، فالأدب جزء لا يتجزأ من الثقافة، لكن رصد هذا التحول لا يعني الانتقال من ساحة لأخرى، بل أن الناس تتفاعل ما يثيرها، ونحن بالأساس صراعنا مع السلطة ومثقفيها.

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "كيف تعمل الدكتاتوريات؟".. ترسيخ السلطة وانهيارها

المسلسل الوثائقي "كيف تصبح طاغية؟".. أحابيل الوصول إلى السلطة المطلقة