13-يونيو-2018

مقاتلون خلال الثورة العربية الكبرى

- ماذا تريد منّي يا سيدي.

- اسمك وسنك ومهنتك ومكان إقامتك.

(أجبت على المعتقل محاولًا التحدث بالعربية الفصحى التي لا أجيدها تمامًا، فكل عملي عادة يكون بالعبرية، وحتى لا أعطيه أي تفاصيل تدل على طائفتي، تحسّبًا من جنسية هذا المخلوق غير المعرّف الذي أمامي، الأوامر تقضي بأن أدعه يتكلم دون مقاطعة، وفي حال امتنع لدي من الوسائل ما يكفي لجعله يتحدث سواء كان لك بالعربية أو بالإيدش).

- أنا اسمي أ. س مواليد عام 1900، أي أن عمري الآن تسعة وستون عامًا هذا طبعًا على فرض أننا في العام 1969 (يبتسم ابتسامة مريرة قبل أن يكمل) عملت في شبابي عدة مهام متفرقة منها مساعدة والدي في أعمال المساحة، وفي فترة شبابي قبل ذلك الحادث عملت "غوي شابات" لعدة سنوات في حارة اليهود، بل تعلمت لغة الإيدش حضرة المحقق، هل تعرف الإيدش؟ أجلس في حارات أولئك اليهود المتدينين وأساعدهم في الأعمال التي يمنعون منها، تخيل حضرة المحقق أنهم لا يستطيعون إشعال النار والطبخ أو حتى الكتابة، لا فكرة لدي ما هو عملي الآن، يمكنك أن تقول متقاعد، أسكن في مدينة القدس عاصمة الممالك العربية المتحدة.

(لا أستطيع منع ابتسامة بلهاء على وجهي، وذلك بعد جهد جهيد حتى لا أرتمي على الأرض مقهقهًا من هذه الترهات، ولكني آثرت التروّي حتى أدع المعتقل يكمل حديثه).

- ما هي قصتك ؟ من أنت وماذا تعمل؟ وكيف تسللت إلى تلك المنطقة؟

من أين أبدأ حضرة المحقق؟ حسنًا، حضرة المحقق سأحكي لكم قصة حياتي بالتفصيل. هل تعرف حضرة المحقق، لقد انتظرت طوال حياتي أن يأتي شخص ويحقق معي فيطلب مني أن أتحدث حتى لا أكون الشخص الذي لم يكن، هل تعرف كيف لا تكون حضرة المحقق؟

هل أبدأ لك من انضمامي للعمل المسلح السري في العام 1919 عندما انضممت إلى خلية سرّية تهدف إلى محاربة الاحتلال البريطاني، خصوصًا بعد أن تناهى إلى مسامعنا نص وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وكنا نقوم أساسًا بالتدرب على الأسلحة، خاصة بندقية القنص البريطانية من نوع "لي إنفيلد"، وفي العام 1921 وصلنا خبر مفاده أن المندوب السامي قام بدعوة شخصية رفيعة المستوى اسمه ونستون تشرتشل ليعرج على القدس بعد زيارته القاهرة فخططنا لاغتياله.

وفي أثناء بحثنا عن أماكن لنخبئ بها الأسلحة، اتفقنا أن يجد كل من أربعتنا مخبأه الخاص الذي لا يعرفه الآخرون تحسبًا للطوارئ، وصدفتْ أنني قمت في العام 1920 بزيارة صديق يسكن في اللجون البعيدة، وفي طريق عودتي على حصاني في مكان ما من وادي عارة، لحظت أجمة على طرف الطرق أحسست بها تنادي عليّ بصوت كأنه صوت حورية من حواري الجنان، فعرجت على هناك، ربطت حصاني جانبًا وبدأت أشق طريقي بمعيّة سيفي حتى وصلت إلى ما يبدو كمدخل كهف، ويبدو أن تأثير الريح قد أنتج هذا الصوت الغريب الذي نادى علي.

دخلت هناك كهفًا بعمق عشرين مترًا، وهناك عند آخره صخرة صغيرة شعرت أنها وضعت هناك، وبعد جهد غير قليل أزحتها لأجد خلفها كوّة صغيره لا تسمح لشخص بالغ بالعبور منها تبدو كوكر واويّ أو ضبع، لكن فضولي ونحافتي أدخلتني من هناك لأصل إلى ما يبدو كأنه غرفة صغيرة، نحتت داخل الحجارة تبدو مضيئة من مصدر مجهول رغم الفتحة الضيقة. رائحة المكان تبعث على النوم وترسلني إلى ذاكرتي الباطنية وتزرع هناك شعورًا بأن الضوء يغمرني ويبدأ باختراق مسامي كأنه أشعّة كونية، وعندما تفقد مساماتي قدرتها على التحمّل تنتهي الذاكرة بحفرة من السواد، تنتهي بأنني أستيقظ وأنا مكوم على الأرض كالجنين في بطن أمّه، أخرج مسرعًا من مكان لأشعر بأنه رغم أن كل ما أراه يبدو طبيعيًا، لكن عقلك يصرّ أن شيئًا ما قد اختلف، أجد حصاني بعد بحث قصير لأكتشف ساعتها سبب هذا الشعور، لقد تبدلت كل الاتجاهات، وكأنني صرت صورتي في المرآة، فصرت أعسر وكذا حصاني انعكس اتجاهاته، فبدل نزوعه للتوجه قليلًا إلى اليسار صار يميل قليلًا إلى اليمين، وحتى الشامة على خدي الأيمن انتقلت يسارًا. وكانت المفاجأة الكبرى وأنا في طريقا جنوبًا إلى القدس أن المسافرين الذين التقيت بهم استهجنوا اتجاهي المعاكس لوجهتي، ولم أصدق إلا حين وجدت نفسي مرة أخرى في اللجون من جديد. التقيت هناك من جديد بصديقي محمد جبارين الذي استقبلني أصولًا بواجب الضيافة، ولم يستهجن سبب عودتي بعد أسبوعين، فبادرته متذرعًا أن والدي الذي يعمل في المساحة ويقيس بلدان فلسطين قد احتاجني بمهمة خاصة إلى جنين فعرجت أسلّم عليه .

كانت الأمور أشبه بالحلم يا سيدي، هل تعرف ما هو الحلم يا سيدي؟ هل هو حقًّا مجرد إشارات كهربائية في خلايا المخ؟ أم ربما وجودنا نحن هو مجرد وهم كهرومغناطيسي في مخ أحدهم؟ لقد تغيرت حياتي منذ ذلك اليوم، حضرةَ المحقق، صرت أقل وزنًا كأن الضوء الذي في داخلي قد اقتطع بعض المساحة في الخلايا على حساب الجسد. هل تعرف وزني حضرة المحقق؟ إن وزني خمسة عشر كيلوغرامًا فقط، ولكن بالله عليك، قل لي يا سيدي ما هذه النجمة السداسية الزرقاء على ملابسك، في أي محافظة نحن؟ أو ربما يجدر بيّ أن أسأل في أي عام نحن؟

(يتسلل إليّ شعور بالشك بخصوص هذا الشخص، فخبرتي في التحقيق تؤكد لي أن كل حرف قاله حقيقي جدًا، رغم أن هنالك غرابة في تقاطيع جسده وبنيته، هل سأشرح له حقًا حقيقة وجوده، وفي أي دولة هو، وفي أي عام نحن! أكتفي بإيماءة مني لتشجيعه على معاودة الكلام بينما لأول مرة في حياتي لا أجد ما أقوله في التحقيق).

في الثامن والعشرين من آذار/مارس 1921، تحديدًا وأثناء زيارته لجبل المشارف من أجل تأسيس الجامعة العبرية، تنكرت بزي يهودي متدين، وحصل صديقي عضو الخلية والضابط في الجيش البريطاني على بطاقة دعوة لي تحت اسم "حنان-إل نتان-إل"، وبينما حمل المعول كي يزرع شجرة التعاون البريطاني أطلقت رصاصتي من مخبأي ثم أطلقت رجليّ للريح.

كان ذلك آخر ما سجّلت ذاكرتي عن أموري الشخصية حضرة المحقق، لقد صرت طيفًا منذ ذلك اليوم، أو ربما مشروع ملاكٍ فاشل، فلم تعد تدون حياتي الشخصية على ذكريات أحد بما فيهم أنا، هل تعرف يا سيدي ماذا يعني أن يصبح جسدك غريبا عنك؟ أنت حتما لا تعرف، سأحكي لك إذًا تاريخ المنطقة، فيبدو لي أنك تجهله لسبب ما حضرة المحقق!

لم يتم القبض علي كما يبدو لأنني لم أكن موجودًا تمامًا، بل تبنّت منظمة صهيونية مجهولة سمّت نفسها "أمناء صهيون" الحادثة مدّعية أن البريطانيين هم العدوّ الأكبر الذي تجدر محاربته، ولأنني تكلمت بالإيدش خلال الحفل مع بعض المدعوين فقد كانت المباحث البريطانية متأكدة من كوني يهوديًا، وقد سبّبت تلك الحادثة تضعضعًا في العلاقات البريطانية مع المستعمرات الصهيونية في فلسطين، بلغت أوجها بعدها بخمس سنوات عندما تراجعت بريطانيا العظمى عن وعد بلفور، حيث بعثت رسالة جديدة إلى رئيس الوزراء سعد زغلول تعده بأن حكومة جلالة الملكة تنظر بعين الرضى  إلى رغبة مملكة مصر بالتوسع شمالًا، لتضم جنوب فلسطين، لتتواصل مع المملكتين الهاشميتين في كل من  الأردن والعراق شرقًا. فكانت تلك نقطة مفصلية في العلاقات العربية البريطانية التي صارت في تحسن دائم، عكس علاقة العصابات الإرهابية الصهيونية التي تبلورت رسميًا عام 1930 وصارت تروع المواطنين وتزرع القنابل والقتل بينهم، مما حدا ببريطانيا إلى محاكمة اللورد روتشيلد بتهمة تمويل الإرهاب بعد أن ارتبطت به فوق كل مجال للشك مصادر تمويل تلك العصابات.

وقبيل الحرب العالمية الثانية حصل اتفاق سري نازي بريطاني (بقيادة تشرتشل) يفتح ممرا آمنًا لليهود بالانتقال إلى أيّ من أوغندا أو الأرجنتين أو الولايات المتحدة، حتى بالكاد بقي يهودي في كل مناطق نفوذ كلا الدولتين خلال أشهر قليلة فقط من اندلاع الحرب وقبل احتدامها.

أما في منطقتنا فقد تكللت المساعي الهاشمية مع الملك فاروق والملك فيصل الأول (الذي نجا من محاولة اغتيال على يد ممرضته عام 1933) عام 1940 بتكوين الممالك العربية المتحدة، بحيث تتكون من ثلاث ولايات في العراق والأردن مصر، بينما تقع شمال فلسطين من يافا شمالًا تحت حكم الأردن، وجنوبًا تحت حكم مصر، وأصبحت القدس العاصمة الرمزية لهذه الدولة، بينما بقيت القاهرة العاصمة الإدارية ومكان سكنى ملك مصر، الذي صار أيضًا الملك الرمزي لهذه المملكة، أو ملك الملوك، وبقيت تدير الشؤون ثلاث حكومات محلية، وتم تكوين مجلس تنفيذي إقليمي يعنى بالشؤن الكبرى بتمثيل مئة وخمسين محافظة تم اختيارهم بتنسيق الملوك والحكومات بداية، ثم انتخابًا مباشرًا لاحقًا. وكان أول قرار تقوم به هذه الدولة الوليدة هو إعلان الحرب على ألمانيا النازية، وإرسال جيوشها التي هزمت رومل في العلمين.

(أشعر أني بدأت أشفق عليه، وأنتبه أنه يبدو هزيلًا شاحبًا، وحتى انعكاس الضوء على يديه ووجهه يرتد متعبًا فبادرت أسأله)

- هل تريد أن تشرب أو تأكل شيئًا؟

لقد اكتشفت أنني لم أعد بحاجة للطعام حقًا، فقد لاحظت أنه يخرج كما دخل فتوقفت عن الأكل والشرب، هل تعرف حضرة المحقق ما هو الخراء؟ إنني أشتاق للخراء بعد أن غاب عني عشرين عامًا، لاحظت أيضًا أنني أتحول أكثر وأكثر إلى كائن هلامي، لو كان جسد أرخميدس كجسدي لما "وجدها"، كان فقط سيذوب في الماء قليلًا دون تأثير يذكر على منسوبه. هل يتم توثيق وجودي حضرة المحقق؟ هل سأكون حبرًا على ورق في مكان ما؟

وبعد النجاح الذي حققته الدولة، انضمت أيضًا مملكة الهاشميين في الحجاز (بعد أن تخلصوا تمامًا من ثورة آل سعود) وإمارات الخليج العربي إلى هذه الدولة، لتصبح أكبر قوة إقليمية ومن أكثر الدول تأثيرًا بعد الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة اللتين صارتا تخطبان ودها بمناسبة أو بدونها. ولأنها دولة مؤسسة من ممالك، فقد مالت لصالح رأس المال، فالشيوعيون يكرهون الملوك. والشعوب تحب أن تحب الملوك، لماذا يا ترى نحب الملوك؟ هل يمثلون تجسيد رغباتنا المكبوتة؟ أم أن البشر يحتاجون إلى تلك الطواطم حتى تجعل شقائهم محتملًا؟ أم أن تلك مجرد إلهاءات لتجعل مهمة أولئك الذين يتحكمون بمصائر الشعوب أسهل؟ وهكذا تسللت موضة الملكية لتشمل حوض المتوسط كله، بل وتتقدم إلى أوروبا حتى اكتسحت أم الجمهوريات فرنسا عندما تم تعيين سليل آل بوربون ملكًا من جديد.

أما أنا فقد شعرت ببداية النهاية في العشرين من تموز/يوليو 1969، "خطوة صغيرة لبشريّ خطوة عظيمة للبشرية"، حضرة المحقق، هذا العالم تطور مثل البرج الورقي، وها قد وصلت البشرية مكانًا لم تعد ترى به الأرض، تنظر إلى الأسفل عبر المكوك في الطريق إلى القمر، كل ما نحتاجه هو قنبلة واحدة تعيدنا إلى الأرض. ألا تعتقد ذلك؟ في ذلك اليوم تحديدًا شعرت بأنّ وقت العودة قد حان، فتركت كل أموري العالقة منذ خمسين عامًا وعدت إلى الكهف، كان السكان المحليون قد ملأوا مدخله بالتراب بعد أن دخل طفل هناك واختفى، عبثًا بحثوا في كل أركان الكهف، وحتى داخل "الحجرة السرية" ولكن لم يجدوا أي أثر، ثلاثة أيام وأنا أحفر حتى استطعت الدخول، وصلت إلى الحجرة، ولكن لا شيء حدث، جلست هناك في مساء الواحد والعشرين من تموز/يوليو 1969 منهكًا خاويًا، ولم أنتبه كيف نمت، كان نومًا نهمًا لذيذًا، كأنني موجودٌ في رحم أمّي، لا أعرف إذا لبثت يومًا أم بضع يوم، وعندما استيقظت. خرجت من الكهف لأجد نفسي داخل ثكنة عسكرية، يتحدثون بلغة تشبه الإيدش نوعًا ما، ما هي هذه اللغة حضرة المحقق؟ ثم تم اقتيادي إلى هنا. قل لي حضرة المفتش ما هو التاريخ اليوم؟ وفي أي مملكة نحن؟

أنا أتلاشى، حضرة المحقق. أشعر بالخواء، هل تعرف ما هو الخواء؟ لقد فقدت قدراتي على الحبّ والحقد، هل تعرف كيف تعيش دون أن تحقد؟ الحقد حضرة المحقق هو المحرك الأساسي لتقدم البشرية، الحقد هو أكثر المشاعر البشرية تطورًا، الحقد مجبول من الخوف كما يتبلور الماس من الفحم.

(نظر إلى المرآة ذات الوجهين وتمتم لنفسه بصوت منخفض "لقد عادت الشامة إلى مكانها" ثم نظر إليّ مستطردًا)

أنا أعتذر حضرة المحقق، ولكن لقد يبدو أنه قد حان الوقت...

(لقد حدث أمر غريب بعد أن توقف عن الكلام، لقد بدأت تنفذ عبره بعض حزمات من الضوء، فصار أشبه بهولوجرامًا منه ببشري، قفزت من مكاني بأسرع ما عندي حتّى أجد الطبيب المناوب، ولكن ما أن وجدته وعدت، كانت هنالك فقط كومة من الملابس سقطت على الأرض، الساعة الآن الحادية عشرة وتسع دقائق صباحًا، الخامس عشر من أيار/مايو 2018، مقر شرطة المسكوبية، القدس، تم إقفال الملف وتصنيفه بـ"سرّي للغاية")

 

اقرأ/ي أيضًا:

كعَقبِ سيجارة

رسول الوحدة