01-فبراير-2019

الشاعر الراحل عبد السلام بوحجر

  • إلى عبد السلام بوحجر

بجهد أحاول خط هذه السطور، بالألم الذي يجد في اليوم مساحة حرية أمام قمع الواقعية الباردة، أن أخرج من اللعبة المستهلكة بين الموت والحياة. معاكسا تيَّار الرثاء الملحمي، لن أطرح السؤال الكلبي: "كم من الوقت مضى منذ أن اكتشفنا التوأمين؟".

الشعراء كما عودونا دائمًا؛ يحسنون الموت في صمت، مهما عاشوا في صخب

بل أتحصن بما يكفي من القناعة الرصينة: أيجدر بنا دائمًا أن نكون هيِّنين أمام حدث الموت الطارئ؟ وأن يرغمنا هذا الحدث المبتذل للخوض مجددًا في إعادة اكتشاف ماهية الموت؟ ذلك حقًا ما لا أظنه، وما يتقنه الشعراء حقًا كذلك. أي الموت في صمت، والذي اعتدنا أن نخطئ في اعتباره شكلًا من أشكال المأساوية، نرى في نقيضه المجد الوجودي، وفي غفلة عن الطبيعة الجدلية للوجود، نقع في هذه المشاطرة الشكلية؛ نبكي رعبنا الغريزي من العدم.

اقرأ/ي أيضًا: الشعر الميّت على فيسبوك

في غفلة كذلك عن طبيعة الوجود، نغفل كون الخلود ثالثًا مرفوعًا لهذه الجدلية، كما نستشفه من الملحمة السومرية، يقبع طرفاها (جلجامش/أنكيدو) حدثان عرضيان، يقعان في معزل عن ذاتية الوعي ووهم الاختيار بما هو محاولة تسلط على الواقع. بصيغة إمبريقية؛ يموت الثاني (أنكيدو)، ويموت الأول (جلجامش)، بينما يرث خيوط الملحمة شاعر في القرن العشرين، ليحيك منها رداء يدفئه من رعشة شيخوخة قهرية.

والشعراء كما عودونا دائمًا؛ يحسنون الموت في صمت، مهما عاشوا في صخب. تعيدني هذه الفكرة لمن رغبت في الحديث عنه في هذه السطور، عبد السلام بوحجر الذي غادرنا، ولتكن القصة كما يلي: شاعر عاش وسط الفحم ومات. (نقطة نهاية).

ينبت الشعر كالفطر، في أماكن لا تخطر على بال ماعز هضاب الشرق المغربي، بين المفاحم البدائية، تنبع نغمة حزينة مترجمةً كما تفنن جورج لوكاش من قبل في خطه عن الواقعية؛ ذلك الارتباط المنهجي بين قساوة العيش والحنين الدائم، إلى ما فوق. بحبر من حمأ مموه بدم مقطر، تكتب القصيدةَ: "لأنكَ تستجيبُ لرعشةِ الجدلِ المُصَعّـَدِ.. من عذابِكَ في خطابِكَ:هذه رؤيا(كَ) وذاكَ مَجَازُهَا". فوق كثبان المزبلة الهوميرية على هامش المدينة المنكوبة، يحلِّق عبد السلام بوحجر. طروادة ليست هنا، على حرف الهاء يشد وتر القلم، والهاء عقدة هيلين وقدر الحرية.

مطاردين أو مطرودين، من مدينة أفلاطون الفاضلة إلى القرآن المقدس، يمشون يجرون الغواة من ورائهم سلاسل آدمية. لن أعيد نفس الجملة البكائية، باستعارة صورة رحلة الأندلسي الأخير، والقول: لماذا يلعنُ الشعراء ويكرم السياسيون؟

الشعر بطولة فردية، من أيام الطفولة البشرية إلى عصر البنك العالمي

فالشعر بطولة فردية، من أيام الطفولة البشرية إلى عصر البنك العالمي. يحضرني هنا قول المفكر السلوفيني: "التوتاليتارية صناعة الشعراء، لا الفلاسفة". يمكن أن يكون لقول كهذا قليل من الأحقية، لو نظرنا إليه بعين العصر، عين القوة كقيمة سامية مقرونة بالبراءة المفترضة، حيث يصدق الشاعر إذا لم يجد عنده شيء يخاف منه، أو يخاف عليه.

اقرأ/ي أيضًا: الشعر روح الرفض في زمن الاستبداد

بالتالي، تكون الشعرية ممارسة الظافرين على كل القيود، المنتصرين على الميتافيزيقا إذ يدفعونها كي تستعير منهم السلاح/اللغة، الثائرين على الواقع إذ يعبرونه جيئة وذهابًا، بحرية من تحت إلى فوق، ومن فوق إلى تحت. يسكنون التاريخ كما النسور، ويموتون كالثعالب وحدهم.

قد يكون موت شاعرٍ قضية عرضية، بينما حياة الشاعر دائمًا خارج هذه اللعبة الثنائية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قصيدة النثر في مواجهة التحالفات القديمة

فيلم "الأبدية ويوم".. الشاعر والطفل