19-يوليو-2016

دعني في البداية أعرفك بإيلينا فأنت بالتأكيد لا تعرفها جيدًا، أو لا تعرفها على الإطلاق، فإيلينا ليست أحد أفراد فريقك في العمل وليست زميلتك في الكلية وبالتأكيد ليست مدام عفاف القابعة بمكتب شؤون الطلبة؛ إيلينا هي بطلة رواية "هكذا كانت الوحدة"، وهي رواية أسبانية خرجت للنور بقلم خوان خوسيه مياس عام 1990 أي عندما كنت أبلغ من العمر 4 سنوات فقط وها هي تصل ليدي وأنا إمرأة ثلاثينية لا يفصلني عن إيلينا سوى عشر سنوات لا أكثر.

طالما سألت نفسي كثيرا لماذا إيلينا؟ لماذا تقرأ عن الوحدة وانت تحاول الخلاص منها؟ وطالما تكررت الإجابات والإبتسامات. أحيانا يكون التعمق في الجرح هو أول طرق شفاءه.

هكذا كانت البداية وهكذا كانت الوحدة، ما أن تشرع في إبتلاع الكلمات الأولى للرواية حتى تجد نفسك في حضرة سيدة أربعينية سقطت لتوها في ظلام نفسي حاد ولم يحن عليها الكاتب ويمد لها أي يد لتنقذها من ذلك السقوط المروع، أو لعله تركها عن عمد في صحراء روحها الجرداء لعلها تظفر بذاتها.

استغرقت قراءة هذه الـ١٨٠ صفحة ٣٦٥ يوم بالتمام والكمال، كنت اقرأ ببطء متثاقل، وأجد لي تمام العذر في ذلك

جلست - خلال عام - بصحبة إيلينا جلسة مطولة، تلقيت معها خبر وفاة أمها وهي تنزع شعر ساقيها وتنزع معه ما تبقى لها من إحساس، أزحنا التراب عن مذكرات أمها وإندهشنا سويا لكلمات الأم المكتوبة عن حبها وتعلقها بالبنكرياس، وكيف فضلت إيلينا أن تكون محبة للجلد والعضلات بينما فضلت أنا الإنحياز لمرارتي التي قررت التحرر والهروب من فخ جسدي.

اقرأ/ي أيضًا: "الجسد البارد".. رواية عن الوجود السوري في لبنان

حاولت إزاحة الحروف والتدخل لإنقاذها من نوبات إعياء متتالية بسبب إدمانها للحشيش، أو على الأقل طمأنتها أن الورم الذي ينمو بداخلها سيكون بخير، خرجنا سويًا بخطوات بطيئة ومتثاقلة من الحجرة للصالة التي يوجد بها الكرسي والساعة اللذان ورثتهما عن والدتها، رأيت أمها المتوفاة تجلس فوق الكرسي تمامًا كما تخيلت إيلينا ولكني لم أخبرها بذلك شفقة بها، ربت على يديها عندما استأجرت محققًا خاصًا يراقب تحركات زوجها الذي تلقت خبر خيانته بهدوء بالغ، ثم قررت أن تجعل المحقق يراقبها هي، كأنها تخبر ذاتها بأنها أولى بالإهتمام من زوجها حتى في المراقبة.

أي حماقة تلك التي تجعلك تمر على سطور توصف أغوارك بدقة باستعجال مخل؟! ماذا يوجد داخل باقي الكتب المنتظرة على الرفوف أهم من نفسك؟!

أحببت إيلينا المكبلة بأسئلة يصعب إجابتها، الغائرة في أيام يجد المرء نفسه يبذل الكثير من الجهد حتى يعبرها، وتأذيت من قلبي لجفاء إبنتها الوحيدة وعدم إشراكها خبر إنتظارها لمولودها الأول، والذي كان له أثر بالغ السوء على إيلينا التي بدت خارج الحياة تصرخ ولا أحد يسمعها ولا تحل دموعها شيئًا. أصابتها نوبة الغم تلك لبقائها على قيد الحياة تشهد -مضطرة- مرحلة مرور الأجيال وتعاقب السنين والفصول والأيام، حزنت لتساقط مظاهر الحياة منها كما تتساقط أوراق الخريف عن شجر لا يبدو سعيدًا ، الأم .. الزوج .. الأخوة .. الإبنة .. الأصدقاء .. الصحة .. العمر، غربتها عن كل ما حولها وإنفصالها عنهم كأنها ساق بُترت لتوها من جسد، تشكو الوحدة أكثر مما تشكو الألم.

هكذا كانت الوحدة التي حولتها إلى إمرأة غريبة عن الجميع لا تهتم ولا تتوقع إهتمامًا، وافقت زوجها الرأي -لأول مرة- عندما أخبرها إنه اذا كان للجميع حظ من الجحيم فعلى المرء إختيار جحيمه الخاص الذي يجد نفسه فيه أكثر راحة، وفرحت عندما تحلت بالشجاعة واختارت -بشجاعة- جحيمها بالتدثر بالوحدة الحقيقية والثورة على القيود، أن تغيب في غياهب تلك الوحدة التي قال عنها جبران: "مملة الوحدة ولكنها أكثر إنصافًا من ضجيج يمتلئ نفاقًا".

اقرأ/ي أيضًا:
"ذكريات من منزل الأموات".. ديستوفسكي سجينًا
أورهان باموق.. من مطبخ الكتابة