06-نوفمبر-2017

طفلان جزائريان عام 1980

 

1

ما أكثر المرّات التي تهاوشتُ فيها مع بناتي الثلاث! بسبب اختلاف خياراتنا التّلفزيونية. هنّ يفضّلن الرّسوم المتحرّكة، وأنا أفضّل نشرة الأخبار. وإذا كانت حاجتي إلى المشاهدة ملحّةً، فإنّني أضطرّ إلى رشوتهن بحكايةٍ أسردها أو قصّةٍ يقرأنها.

2

لا أعرف كيف صرن يُسمّين نشرة الأخبار "بوتفليقة"، لكنّني أعرف مصدر معرفتهنّ بكونه مريضًا، وبأنّه يتماثل للشّفاء في كلّ مرّة. إنّها الخالة "م" منظّفة العمارة، التي لا تكفّ عن الدّعاء له بالشّفاء، والقول إنّه إذا فاته أن يكون له أولاد، فإنّ الجزائريين كلَّهم أولادُه.

 

شريط الذّاكرة

كان عمري تسعةَ أعوامٍ، حين قال لنا مدير المدرسة الوحيدة في القرية، سنة 1986، إنّه علينا أن نحضر باكراً، بعد أربعة أيام، ليتمّ نقلنا في حافلةٍ خاصّةٍ إلى مدينة المنصورة والمشاركة في استقبال الرّئيس الشّاذلي بن جديد. وطلب منّا أن نختار أحسن ثيابنا لنكون في مستوى المناسبة.

بدأت القرويّاتُ في إعداد أولادهنّ لمقابلة الرّئيس. فراجت بينهنّ تجارة الدّجاج والسّمن البلديين والدّيك الرّومي والأرانب المنزلية، حتى يضمنّ مالًا يشترين به لأطفالهنّ ثيابًا جديدةً من السّوق الأسبوعية.

كنت صديقًا وفيًّا للمذياع، فكنت على علم باسم الرّئيس، لكنّني لم أكن أعرف ملامحَه، إذ لا كهرباء في القرية، ومنه لا وجود للتلفزة فيها. فراح الخيالُ يلعب دورَه، في رسم صورةٍ له، ثمّ محوها، ورسم صورةٍ أخرى، فمحوها، حتى نال منّي النّعاس.

رأيتُ، في المنام، رجلًا طويلًا ووسيمًا ومهندمًا، فوق حصانٍ أبيضَ تكاد حوافرُه لا تلامس الأرض لنشاطه. ثمّ رأيت سكان القرية يخرجون لاستقباله هاتفين: "يحيا الشّاذلي... يحيا الشّاذلي". فرحت أهتف معهم، وأخترق صفوفهم لأكون أقربَ إليه منهم. طلب منّي راكب الحصان أن أمسك بلجامه حتى يترجّل ففعلت. وما أن وطأتْ قدماه الأرضَ حتى أَفْلَتُّ الحصانَ، فراح يركض بعيدًا في البراري.

انتزع الرّئيسُ العصا من شيخٍ كان يهتف باسمه، وراح يضربني بها ضربًا لا رحمة فيه، والنّاس يهتفون. الرّئيس يضربني وأهلي يهتفون باسمه. لم أصرخ، لم أحتجّ، لم أبكِ، ثمّ فجأةً توقّف عن ضربي، مشيراً إلى النّاس بأن ينوبوا عنه في ذلك. فصحوتُ مثقوبًا بالرّعب من منامي المُكَوْبَس.

كانت المرّة الأولى، التي أرى فيها مركبةً ضخمةً. أقصد الحافلة التي أرسلوها من الولاية لتحملنا إلى دائرة المنصورة. وكان الجميع يرتدون ثيابًا جديدةً. بعضهم كان يرتدي ديكًا روميًّا، وبعضهم دجاجتين وبعضهم لترين من السّمن، أمّا أنا، فقد كنت أرتدي أربعةَ أرانبَ، باعتها أمّي لعجوز تستعدّ ابنتُها لأن تضع مولودًا.

كاد قلبي يخرج من فمي، حين وصلنا إلى المكان. ما أكثر التّلاميذ الذين جيء بهم مثلنا! هل يُعقل أن يختارني الرّئيس من بينهم جميعًا ليضربني؟ ثمّ كيف سيراني وأنا سأختار الصّفوف الخلفية؟ فكّرت في أن أتسرّب، من بين الجميع، وأفرَّ إلى بيت خالي. وفي اللحظة التي قلت في نفسي إنّها فكرة جيّدة، قال لي مدير المدرسة إنّه علي أن أرافق هذا الشّاب وأطيع أوامرَه. كان أحد قادة الكشّافة، وكان مكلّفًا بأن يختار، بالتّنسيق مع مدراء المدارس، أنجبَ التّلاميذ ليكوّن منهم كوكبةً تكون في متناول مصافحة الرّئيس.

كانت الشّمس تشوي الأبدان، وكان العطش يشوي الحلوق، وكان الجوع يشوي البطون، وقد تأخّر موكب الرّئيس إلى الواحدة زوالًا. كان الجميع يتمنّى وصوله ما عداي، فقد كنت أدعو الله بحرارةٍ أن يموت فلا أراه ولا يراني، إذ سأصير أضحوكةً إن هو ضربني أمام هذه الحشود. فجأةً انتفخت الحناجرُ: يحيا الشّاذلي/ يحيا الشّاذلي/ يحيا الشّاذلي. كان الرّئيس يحيا في الكلمات، وكنت أنا أموت بعيدًا عن أيّ انتباه.

 

كهرباء اللّحظة

3

ارتفع عويلُ ابنتي نجمة قادمًا من غرفة جدّتها: مات... مات، فتركت ما بين يديّ في مكتبتي، وهرعتُ إليها.

4

وجدتُ علياء "ميّتة" فوق الكرسي، الذي جلبتُه لجدّتها، من دبي، كي تستعين به على الصّلاة، ووجدت نجمة متشبّثةً بها، وهي "تذرف" الدّموع: مات الرّئيس.. مات الرّئيس.

5

فتحت علياء عينيها ضاحكةً: ما تخافيش.. لقد دعت لي خالتي "م" بطول العمر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وجهك

لا أسألُ أين الجميع؟