27-فبراير-2020

ألبرت سيرفيس/ بلجيكا

صاحب الهرم

اعتاد وقبل النهاية أن يُغرف ملعقته البلاستيكية بفمها المتآكل في الساقية المُحاصِرة للهرم، ويرفع يده بهدوء القطط إلى القمة، ثم يسكب ما غرفه من ماءٍ فوق الأخضر الطريّ، تكراره لهذه العملية الشبيهة بناعورة حموية رأيتها فقط في الصور، وفي بقايا ما يشبهها على نهر الخابور الحسكاوي، مثل تعويذة دنيوية متعاقدة مع الغش والعطش.

يتربع الهرم على شادرٍ أسود مفروش على عربة تكاد أن تكفر من الثقل، بأربعة دواليب من الصّب (الكوجوكيِّ)، إن هذا التربع ليس بصدفة لقاء من لا تحبّهم بشارعٍ لا يمكن أن ترى فيه إلّاك، بل بإتقان الخزفيّ لمزهرياته في قبوه المعتم، لوزة لوزة، أقصد قطعة قطعة حتى تكتمل أوجه الهرم الخمس، أو أوجهه المتعددة كأقنعةِ هذه الأيامِ الكثيرة، يستمر الجوّاب الأخضر بالدعاء عند صَفّه للوز:

يا لوزة قلبي

خذي مكاااانك

 في فم المشتري

هذا الفعل وهذه الحركة الموسمية، يشكّلان جزءًا من انتظاراتنا نحنُ الصغار والكبار على حدّ سواء، بل إنّ تلك الحموضة في تلك الثمرة تكونُ مشتهاة للنسوة، فيتوحمنّ عليه، ولم يبقَ هذا الهرم المتحرك مادة ثانوية في وقت ما، بل شيئًا مهمًّا من حركة الشارع والأزقة والحارات.

الأمكنة المفترضة

عند تلاقي كلّ مفرق، وانفراج كلّ زاوية يتسع لعربته، جانب الحوانيت والمقاهي، خلف الكراجات والمصارف وبائعي الفلافل وما يحدها من البسطات، ونادرًا في الأحياءِ الفارهة التي لا تثق بشكله ولا بعربته، فاللوز الذي يبتاعوه يأتيهم بتقنية التوصيل البشري وليس فقط لأبواب منازلهم بل أحيانًا لأفواههم، ولهذا فالطبقبة هذه جعلتهُ شعبيًا وأقربَ إلى روح الكثيرين في بلد ينحدر أغلب شاغليه إلى الفقر والحاجة.

حقيقة وإن كانت حلمًا

بكامل اليقين، يلج هذه الأحياء مرتين في اليوم، في بداية رحلته وعندما يسمع الشمس قائلةً: هيا ارحل إلى منزلك وأطفالك أشباه اليتامى، لا يصيح في هذه الأحياء خجلًا، بل يكتفي بالدفع ناظرًا إلى الشرفات وما يسلب حريتها من الدَرَابزِين (بالتركية)، يغوص في دقة صنعها، وكيف تتكور وتنحني، وما لهذه الدهاليز المبهرة، هو لايملك شرفة من المؤكد، ولا ما يشبه البيت، كما لو حالهُ يقول: يااااه.. حتى أحلامي تتطلب أحلامًا كي تتحقق، ماذا أشتري أولًا البيت أم الشرفة؟ لا يهم! يلمح اهتزاز الستائر المطرزة بأيدِ "وكما يعتقد" حوريات على حواف نهر الأمازون، عشق ستارة كانت ترحب به كلّ مرة يلقاها، وكأنها حمامة بيضاء رُبط جناحها الأيمن وترفرف بالأيسر كتحية لا تفهمها إلا مخيلته الساذجة.

هييييه: أنت!!

أنا؟

نعم أنت، لدي ما يمكن إعطاؤك إياه، أقبل إليّ عندما تدفعك الشمس إلى المنزل.

ما هذا؟ منذ تسعة أعوام أطوف وأمسح هذا الحي بأقدامي وعربتي ولم أسمع صوتًا يلامسني، لم أرمق سوى عيون صافية في ابتذالي ونبذي بقرف الأصيل "اعتباطًا" للشعوب اللميّمة، والآن يصيح بي أحدهم بثلاثة أحرف؟ ما هذا الشرف الذي أغرقني؟ أنت!! ياااه كم متخمة هي هذه الأحرف! أنا أصبحت منذ اليوم أنت، أنت وفقط، هنا قد تكون الأرقام لها قيمة، وهنا تغيب قيمة الأسماء مالم تُتبع بالذي يعطيها من الهيبة والفخامة!

أنت وفقط

سقط الصحن البورسلاني الحليبي بزخرفته الفيروزية، الصحن الذي لا يشبه صحوننا (روميو وجوليت) على تلك السجادة الدافئة، لم ينكسر، بل لاحظت كيف تقلّب مرتين حول نفسه عند سقوطه من الطاولة، وعند القلبة الثانية شاهدتُ على ظهره تلك المرأة التي صاحت بي: "أنت"! كانت تهمس لي بلغة أشبه إلى لغة الصفير وتشير إلى تلك الشرفة والدربزون المكتفي بذاته، لم أفهم ما تريد، أعدت الصحن إلى الطاولة لتدخل عندها المرأة من باب المطبخ إلى مكان تواجدي، ولم أذكر كيف دخلتُ هذا البيت، ولم أعد أذكر عربتي، تحجب نظري الطاولة والشرفة والدربزون والصحن، والستارة، نعم الستارة البيضاء، قالت: "أراك دائمًا، ومنذ شرائي لهذه الستارة اللعينة البرازيلية وتعليقي إياها هنا لم أر سواك، هجرني زوجي وأطفالي أيضًا ولا أعلم إن كان لدي أطفال، ولكن الأهم أنهم ليسوا هنا، الآن سوف تجيبني:

  •  من أنت؟
  • أنا: أنت
  • ماذا تهذي يا هذا قل من أنت؟
  • لقد أجبتك: أنا أنت
  • أعني صار اسمي: أنت".

في هذا المكان الذي يكون غريبًا عليك، لابدّ أن تتبدل حياتك ولو مؤقتًا، فقد يتغير مزاجك، وربّما تكتسب اسمًا جديدًا كالاسم الذي أحمله الآن، ويليق بلحظتي الجديدة!

كسرعة الإنترنت في كوريا الجنوبية -مثلًا- ركضت باتجاه الشرفة محتضنًا الستارة (معشوقتي) لأحررها، ولأدفع بنفسي معها خارجًا، ولكن عطلًا فنيًا في القفز منعني اجتياز الدربزون، فرحت أتزحلق بين دهاليزه، وكأني راكبُ قوس قزح أسود حديدي، والستارة تضحك وترفرف وتغير لونها للأسود وأنا أتحوّل إلى قطع صغيرة خضراء، أتفرّق وأتكوّم، أتطاير... وتجمعني الستارة، ما هذا الاحتواء؟ ما هذا التعلق؟ ليطرحني الجواب على عربة خشبية كهرمٍ خماسي يتربع على جادرٍ أسود تحيطه ساقية.

ملاحظة

إن الرحلة في هذه الأحياء لم تكن للبيع أو لاستعراض اللوز، بل كانت كفلتر ماء ينقي الشوائب التي تعلق به، كانت هذه الأحياء أمل أو جائزة له مرتين يوميًا، ربما دين أرضيّ يمنحه الراحلة النفسية، لوحة كبيرة يمكنه السير بها، وأن يتقمّص أحد ألوانها أو مخلوقاتها ولكن اعتقاده وكما أعتقد هي حلمه الحقيقي الذي يحتاج حلمًا كي يتحقق.

لعلّ جوّاب الحارات الأخضر بهرمهِ اللوزي، له مأساته، أحلامهُ، آماله، أحاديثه مع نفسهِ، وكذلك خيباتهُ حين يعود من غزواته في الشوارع والحارات المختلفة عن هامش عيشهِ البائس بخفيّ حنين، وبلا أمل بإيفاء وعوده الصغيرة لمن ينتظرهُ!

 

اقرأ/ي أيضًا:

ألم أصغر من أن أقوله

نبيعُ أحلامنا بأثمانٍ زهيدة