24-أكتوبر-2018

كلمة الله في شارع بدمشق

لا أحد يعرف بالضبط ما الذي كان يدور بخلد أحد معارضي النظام السوري، عندما قرّر في جمعة "هيئة التفاوض لا تمثلنا" أن يرفع بطاقة كُتِب عليها: "أيها الموالي! سيأتي اليوم الذي يشكرنا فيه أحفادك على الثورة التي قمنا بها ضد حكم آل الأسد"، سوى تذكير الموالين بالحرية التي ينعم بها المعارضون في اختيارهم لممثليهم السياسيين، وقدرتهم على نزع الشرعية الثورية عنهم في حال تهاونهم في تحقيق أهداف الثورة أو التفريط بمبادئها الأساسية. إلا أنه لو قدّر للمعارض أن يدقّق في المشهد الذي آل إليه وضع الموالين لاكتشف المدى الذي وصلت إليه عدوى نظرة الموالين لأنفسهم ككائنات سياسية يحق لها المشاركة في اتخاذ القرارات التي تمسّ وجودهم، عبر مناقشتها وتقديم الاقتراحات لتعديلها أو رفضها حتى لو جاءت من الذات الرئاسية ذاتها. ولا أدل على ذلك من الحملة الشعبية الشعواء التي قادها الموالون ضد المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2018، القاضي بتحديد صلاحيات وزارة الأوقاف السورية.

وزير الأوقاف العارف بكواليس اللغة السجالية المستخدمة في زواريب نظام آل الأسد رد على الاتهامات ضده باتهامات مضادة ليس إلا!

ففي التفاصيل اليومية لهذا الاحتجاج، تجرأ الشاب مازن مصطفى على تزعم حراك شعبي، يدعو فيه من يشاطره الرأي إلى تجمع حاشد أمام مجلس الشعب، للتعبير عن رفضهم لبعض مواد المرسوم بغض النظر عن حصولهم على الموافقة الأمنية لهذا التجمع، لقناعته بأنه لن يحصل عليها، الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا باعتباره نوعًا من فقدان الثقة بين الرئيس وقاعدته الشعبية التي درجت على رفعه إلى مصاف الذات الإلهية.

اقرأ/ي أيضًا: بشار الأسد واعظًا.. جناية السلطة ضد النص والتفسير!

 أما ردة فعل الناشطة الفيسبوكية ماغي خزام، التي تقيم خارج سوريا وتدير صفحة يتابعها آلاف الموالين، فقد فاقت التوقعات، عبر ردها على حماس الرئيس الأسد لهذا المرسوم والإصرار على تمريره، إما لذاته النرجسية التي تحلم بالوصول إلى مرتبة خليفة المسلمين، أو تعرضه لغسيل دماغ من وزير الأوقاف: "قريبًا ستفاجؤون بهذه الدولة التي أصبح رئيسها رهنًا لمشيئة وزير الأوقاف، الذي يملي عليه تصوراته الدينية التي يريد، وإلا كيف نفسر تحول الرئيس المفاجئ من العلمانية إلى الإسلام على الطريقة السعودية، و كل همه أن يصبح خليفة للمسلمين بأي طريقة من الطرق؟".

الرغبة الجامحة لدى السيد نبيل صالح، النائب في مجلس الشعب السوري، في منع إقرار المرسوم داخل المجلس، حوّلته في نظر زملائه إلى متمرد على سلطة الذات الرئاسية، التي لا تقبل الاحتجاج على مراسيمها التي ترسلها إلى المجلس لإقرارها وإلاّ عُدّ هذا الاعتراض سلوكًا متعمدًا للنيل من هيبتها المتعالية، الأمر الذي دفعه ليستقوي بالجمهور علّه يشكل ضغطًا على مقام الرئاسة بقصد تعديله أو سحبه، مما جعل منه بطلًا شعبيًا، وحوّل مهمته من مشرع إلى ناشط سياسي تارة، إلى مراسل صحافي، فناقل نميمة تارة أخرى.

في مواجهة هذا السيل الجارف من الانتقادات التي طالت الوزير، ووصلت في حدتها حد اتهامها له باللاوطنية، التعبير المجازي لمفهوم الخيانة، كان على الوزير أن يرد على تلك التهمة خوفًا من أن تكون تلك الهجمة مقدمة للإطاحة به، مع أنه يعلم علم اليقين أن المقصود بها هو الرئيس ذاته، وأن دوره في العملية لا يتعدى دور الضحية التي وقع عليها الخيار لاستقطاب العنف الشعبي.

الوزير العارف بكواليس اللغة السجالية المستخدمة في زواريب نظام آل الأسد رد على التهمة بأختها، مع رفعها إلى مستوى انفعالي لا يقبل التشكيك من خلال ربط منتقدي المرسوم بالعمالة للصهيونية والإمبريالية العالمية وللسعودية الوهابية.

في حيثيات رفض الأفراد المحتجين على المرسوم التشريعي السابق، يلاحظ المرء إجماعهم على أن المرسوم ينال من "علمانية" الدولة السورية، متناسين عمدًا المبدئين الرئيسين اللذين تقوم عليها الدولة العلمانية، وهما مبدأ فصل الدين عن الدولة، و مبدأ حرية الاعتقاد الديني، متجاهلين سواء عن حسن نية أو سوء معرفة هوية الدولة السورية كما جاءت في الدستور السوري لعام 2012، التي قضت بحصر منصب رئيس الدولة بالمسلمين، مع أن بعض السوريين يدينون بالمسيحية واليهودية، الأمر الذي يضر بمبدأ المواطنة العلماني القائم على المساواة بين سكان الدولة، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية.

ظل مبدأ حرية الاعتقاد في دولة الأسد الأب والابن حبرًا على ورق وأداة خطابية

أما مبدأ حرية الاعتقاد فقد ظل في دولة الأسد الأب والابن حبرًا على ورق، إذ لم نسمع ولو مرة واحدة عن شخص مسلم في سوريا تحول إلى المسيحية، وقبلت وزارة العدل التابعة للأسد بتسجيل تحوله في سجل الأحوال المدنية، كونه يتعارض مع "حد الردة" الذي يفتي بقتله. وهو أمر يتساوق مع موقف نظام الأسد من قيمة الحرية ذاتها، إذ كيف يمكن لنظام يمتهن حق تمتع الفرد "بكرامته الإنسانية" أن يحمي حقه بممارسة الحرية السياسية ناهيك عن الحرية الدينية.

اقرأ/ي أيضًا: ترميم تماثيل الأسد.. استثمار عبثي في رموز السلطة

في سبيل البحث عن سبب مقنع لتفسير إصرار المحتجين على نعتهم نظام الأسد بالعلماني، لا نجد سوى إشارتهم إلى خلو قوانين الجمهورية السورية منذ دستورها الأول لعام 1920 من أي إشارة لتطبيق قانون الشريعة الإسلامية والمعروفة "بالحدود"، كقطع يد السارق وجلد شارب الخمر ورجم الزاني وغيرها من العقوبات؛ على الرغم من تضمينه لعبارة "الفقه الإسلامي المصدر الرئيس للتشريع"، الذي عنى بشكل أو بآخر بقصرها على قانون الأحوال الشخصية، وهو أمر تشترك فيه معظم الدول العربية والإسلامية التي قررت تعطيل فعالية قوانين الشريعة الإسلامية المسماة "بالحدود الشرعية" باستثناء السعودية والسودان وأحد أقاليم أندونسيا.

في حماس السلطة التنفيذية، متمثلة بالذات الرئاسية، لإقرار المرسوم الجديد لوزارة الأوقاف السورية، ثمة انعطافة كبيرة في تلزيم إدارة الشأن الديني لوزارة الأوقاف حصريًا، بعد أن كانت تدار من قبل من مقام رئاسة الجمهورية على طريقة الفروع الأمنية، حيث كان يقتضي الأمر بوجود أكثر من متعهد ديني واحد، يجمع بينهم التنافس على أداء المهمة الموكل إليهم على النحو الأفضل، والمتمثلة بإضفاء الشرعية على حكم آل الأسد، مقابل تفعيل العلاقة النفعية بينهم وبينه. أما الجذر الروحي لهذه الحماسة فهو نابع من مقاربة الأسد لفهم الأزمة التي ألمت بنظام حكمه، التي لم يجد فيها إلا تمردًا قام به مجموعة من الأفراد المتطرفين، الذين ينتمون إلى المذهب السني تحديدًا، لسبب وحيد هو تبني فهم خاطئ للنصوص الدينية دفعتهم للمشاركة في التمرد على سلطته وتدمير بلدهم الحبيب. وهو ما ستتكفل وزارة الأوقاف بتجنب حدوثه مستقبلًا من خلال خطتها الجديدة القاضية بتنظيم النشاط الديني وتفرعاته المختلفة.

أفسحت الثورة السورية  للسوريين المتمردين على سلطة آل الأسد  أن يتعرفوا على أنفسهم كبشر أحرار

في المهمة الجديدة لوزارة الأوقاف، نحن إزاء التقاء وعيين غيبيين، يتمثل الأول في وعي الرئيس العنجهي والمتعالي على الواقع، غير المصدق لقدرة العبد في مملكته على وعي وضعيته كعبد ثم تحركه للانعتاق منها نحو الحرية، أما الوعي الآخر فهو وعي وزيره المتبجح محمد عبد الستار، الذي يعتقد بقدرته على اجتراح فهم صحيح للنص القرآني، قد تمكنه من الحجر على وعي المسلم المتمرد على شرط عبوديته.

أفسحت الثورة السورية التي انطلقت ضد حكم دولة آل الأسد، المحكومة بالحديد والنار، للسوريين المتمردين على سلطتها أن يتعرفوا على أنفسهم كبشر أحرار، يستحقون الاعتراف بكرامتهم الإنسانية، أما للموالين فقد سمحت لهم بأن يطالبوا بتغير مكانتهم الوجودية من وضعية أداة السلطة التي تقوم بتنفيذ أوامر القتل والنهب، إلى وضعية الشريك الذي يحق له الاعتراض والمشاركة وتقديم الاقتراحات. ولقد نجحوا لأول مرة في تحويل مرسوم تشريعي ذي إرادة رئاسية سامية إلى مشروع قانون صادر عن مجلس الشعب، إلا أنهم لم ينجحوا في فرض وجهة نظرهم القائلة بإقصاء رجال الدين السنة من دور الأداة أو الشريك أو الحليف للسلطة الأسدية، وقيامهم بالأدوار التقليدية لشرعنة سلطة آل الأسد المملوكية، رغم محاججتهم على اعتبار أن أفكار الشيوخ الدينية ملهم رئيسي لحركة التمرد ضد النظام، غافلين عن طبيعة دولتهم الطائفية المولدة للثورة حتى لوكان رعاياها من الملاحدة.

تعيب السلطة الرئاسية على وعي قاعدتها الشعبية اتصافه بقصر النظر، كونه لا يفهم الوظيفة التي يؤديها رجال الدين في تبرير شرعية حكم آل الأسد المملوكي

تعيب السلطة الرئاسية على وعي قاعدتها الشعبية اتصافه بقصر النظر، كونه لا يفهم الوظيفة التي يؤديها رجال الدين في تبرير شرعية حكم آل الأسد المملوكي، واستعدادهم لتبني فكرة الجبر الإلهي الأموية بنسختها الأسدية، التي تجعل شخصًا مثل المفتي حسون يهدد كل شخص مسلم يطالب باستبدال بشار الأسد أو الثورة عليه بالاعتداء على مشيئة الله ذاته. على العكس من رغبة أنصارها تجد السلطة نفسها محقة في الاستعانة بمثل رجال الدين المدجنين هؤلاء، باعتبارهم القوة الفكرية الناعمة القادرة على تعويضها عن تآكل الدور الأيديولوجي الذي كان يقوم به حزب البعث، كما فقدان هيبة رجال الأمن لدورهم الردعي في منع قيام تمرد آخر، ولا أدل على ذلك من اصرار المرسوم التشريعي على حشو مادة تؤكد على "أن الانتماء الديني للفرد لا يتعارض مع المواطنة"، وهي مادة تتعارض مع علمانية الدولة التي تقوم على مبدأ المواطنة.

يغيب عن بال وزير أوقاف الأسد، كما الأسد نفسه، أن قدرة رجل الدين على الإصلاح الديني عبر تقنية "الإفتاء" تظل محدودة بأمرين، الأول هو الثقة التي يمنحها الناس للرجل المكلف بالإفتاء، وهو هنا وزير الأوقاف، الشخص السلطوي والملكي أكثر من الملك نفسه؛ والثاني تقبل الناس للفتاوى الصادرة واستعدادهم النفسي للعمل بها. كما يغيب عنهما أن السبب الحقيقي المولد للثورات أو للأزمات يكمن في طبيعة الدولة التي يحكمها الأسد، والتي يصر على أن يدعوها حديثة وديمقراطية شعبية وعلمانية، بينما هي دولة قروسطية ترفل بأثواب الاستبداد والعنف الوحشي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سيكولوجيا الجلاد.. التعذيب بوصفه فنًّا

إجرام السلطة وقتلتها الكثر.. محرقة سوريا نموذجًا!