01-سبتمبر-2015

متظاهرون يرحبون باللاجئيين في فيينا (الأناضول)

يتداول السوريون، على صفحات فيسبوك، صور استقبال النمساويين لقطارات اللاجئين القادمة من هنغاريا. طبعًا ينشرون الصور مع إشادة واسعة بكرم أهل النمسا، مع أن منظومة العقل الغربي عمومًا لا تعترف بمصطلحات كالكرم وإغاثة الملهوف، بل تعمل بموجب حقوق وواجبات، والمسألة أنك كإنسان من حقك أن تحيا حياة كريمة، ومن الواجب تسهيل السبل كلها لأجل ذلك.

في حالة السوريين، يغدو طبيعيًا أن تكال المدائح لهذه الشعوب التي تفتح قلوبها للوافدين

بين قطبي الحق والواجب، تمرّ كل تلك المفاهيم المتعلقة بالجمال والحب والإنسانية والتفاني، وتتضاءل أفكار الأنانية وحب التسلط من الحيز العام وتنزوي، لأن القانون سيد الجميع، وهذا طبعًا لا ينفي أن الهاجس الإنساني متفوق بطبيعة الحال عمومًا.

في حالة كحالة السوريين، يغدو طبيعيًا أن تكال المدائح لهذه الشعوب التي تفتح قلوبها للوافدين هربًا من عذابات الواقع المر، لكن هذا المديح الاستثنائي للشعوب والدول والحكومات الأوروبية يترافق مع ذم مبالغ فيه للدول العربية التي لم تفتح أبوابها للمهجّرين من ويلات الحرب، ما يُحدث خلطًا كبيرًا، لا سيما حين يكتب في هذه السياق، على صفحات التواصل، كتابٌ أو إعلاميون أو نشطاء بارزون. ويجدر بنا أن نتذكر استقبال المصريين واللبنانيين، وحتى الأتراك، ودفأهم وترحابهم العظيمين، قبل أن تتدخل عوامل كثيرة لعبت دورًا سلبيًا في تبديل جهة الرياح مرة، والقلوب مرة أخرى. وبالتأكيد لم يقصّر السوريون أنفسهم باختلاق بعض تلك العوامل، وهنا نتحدّث عن الاجتماعي.

اللافت في كتابات الفيسبوكيين السوريين هو حصر قيم النبل بأنفسهم لكونهم استضافوا اللبنانيين والعراقيين، وقبلهم الفلسطينيين، وهو أمر محق لكنّ الفكرة تغدو تعسفية أحيانًا عند المبالغة بها، وتصبح أقرب إلى المنيّة، وإن تم احتساب الأمور بهذا الشكل فيجب التذكير بأن السوريين، والعرب عمومًا، لم يحركوا ساكنًا أيام مجازر راوندا أو البوسنة أو الشيشان أو بورما حاليًا، لو بهاتشتاغ او مظاهرة فيسبوكية. 

لا يجوز التعميم أو الخلط بين الشعوب والدول، فيجب ألا تصبح ميركل ملاك الفقراء واللاجئين وأن تؤطّر صورها بعبارة "منحبك"، المستعارة من شعار استفتاء بشار الأسد في الولاية الثانية، كما يجب ألا تذّيل بعض الكتابات بصور ميركل الشابة بالبكيني مرفقة بأوصاف من قبيل "الكافرة" أو "لو الله يتوب عليها، كانت أحسن من كل نساء المسلمين"، مع العلم أن تقييم ميركل يجب أن يخضع للموضوعية السياسية، بعيدًا عن أي تبجيل أو تحقير، كما هو الحال مع أردوغان الذي يصبح مخلص الإسلام والمسلمين على الفيسبوك، بينما يعتبره آخرون شيطانًا.

في العودة إلى ما جرى في النمسا، تلفت الانتباه تلك الدونية لدى البعض أمام الأوروبيين، حيث يذهبون إلى اعتبار أنهم أفاضل في كل شيء، وأنهم لولا استحقاقهم للتطور والتقدم لما حصلوا عليه، في مقابل أننا نستأهل تخلفنا. يقول الفسابكة السوريون "يا لكرم الضيافة مع أنهم غير مسلمين! يا لعظمة أخلاقهم مع أننا لا نمت لهم بصلة دينية أو عرقية.. وهكذا".

تكمن المشكلة في أنّ من تربى على مفاهيم البعث لن يصل إلى التجرد من فكرة الانتماء إلى الإنسانية وحسب، وهو ما يدفع هؤلاء الناس للتضامن مع اللاجئين المختلفين في اللغة والدين واللون. رغم وجود فئات في هذه المجتمعات معادية للاجئين لذات الأسباب التي دفعت الفئة الأولى للتضامن معهم. لكن تربية البعث تلعب دورها حين نرى الكثير من الفسابكة السوريين مصرين على أن هناك أيدٍ خفية تدفع بتلك الشعوب للتحرك، متجاهلين الأسباب الإنسانية وكأنها ليست ذات شأن في العلاقة بين البشر بوصفهم بشرًا أولًا، لينشغلوا بالبحث عن خيوط المؤامرة التي تفريغ الوطن العربي من دمائه الشابة ونقلها إلى أوروبا العجوز.

قبل حوالي عشرين عامًا، شاهدنا على الشاشة السورية مسلسلًا بعنوان "هجرة القلوب إلى القلوب"، ولم نكن نعرف أن القلوب البشرية قد تتوافق في نبض واحد، والآن نعرف جيدًا أن ذلك ممكن إذا تحرّك الدافع الإنساني دون مصلحة.