30-سبتمبر-2015

ياسر صافي/ سوريا

حقائب محشوّةٌ بالخوف، ثيابٌ برائحةِ الخذلان، أحذيةٌ لأقدامٍ مبتورةٍ، صورٌ لعائلةٍ كاملةٍ لم تعد كذلك، وجوهٌ هزيلةٌ إلّا من غضبها، عيونٌ تقذفُ ملحًا ناشفًا، أفواهٌ تصرخُ بلا حناجر، الحناجرُ تُرِكتْ هناكَ محزوزةً، آذانٌ لا تعرفُ إلّا موسيقا الجنائز وصوتَ الموت، للموتِ صوتان: الأول يتمثّل بالانفجار والصراخ وملحقاتهما، والثاني هو الصمت، الصمتُ صوتُ الموتِ المكثّف، أبصارٌ لا تبصرُ إلّا الخرابَ، معموراتٌ لم تعد كذلك، دمٌ أكثرُ من الهواء، وهواءٌ مطعونٌ برمادِ جثثٍ محروقة، الخيمةُ تنتظر، الخيمةُ هي الساعة، يذهبُ قلّةٌ إلى خيام أقلّ موتًا، أمّا البقيّةُ فيذهبونَ إلى خيامِ الجحيم، الملائكةُ يحومونَ بثيابٍ موحّدةٍ عليها شعاراتٌ زرقاء، واللهُ لم يظهر كالعادة، لا أنهارَ هنا إلّا التي علقتْ في ذاكرةِ المجزرة، الحوريّاتُ يأكلنَ الترابَ، والأطفالُ يطوفونَ ليتسوّلوا ماءً، والرّملُ الذي اعتاد الأطفال حبّه، صارَ جمرًا وصقيعًا.

والأطفالُ يطوفونَ ليتسوّلوا ماءً، والرّملُ الذي اعتاد الأطفال حبّه، صارَ جمرًا وصقيعًا.

قبل القيامةِ بدقائق، عبَرَ الأحياء الموتى صراطَهم الأعوجَ نحوَ موتٍ أقلّ، العسكرُ يبطحونهم ويسوقونهم ويسرقونهم ويسألون كلّ واحدٍ منهم: "من ربّك؟ ما دينك؟ ما كتابُك؟" ثمّ يُضربُ بأخمصِ البندقيّة فيصيح صيحةً يسمعها كلّ الكونِ إلّا ثلاثة: اللهَ، والمجتمعَ الدوليَ، وشركاءَه في الوطن، ثمّ يموجُ المكلومونَ موجًا، ثمَّ يسّاقطون، ثم يقومون فيُبعثونَ ليلقَوا في جحيمِ الخيمةِ سبعينَ حولًا، ولا حولَ لهم ولا حولهم إلّا التصحّر والعراء، ثمّ يُنادى في الأرجاءِ عن سُوقٍ لأنصافِ الموتى، الذين كانوا أنصافَ آلهةٍ، صُلبَ نصفهم وظلّ نصفهمْ رايةَ عطشٍ، ومتحفَ جوعٍ، ومشاعَ قبح، وتُعرَضُ على الجميلاتِ الجنّةُ ابتغاءَ وجهِ الموت، ويُبَعنَ بضاعةً كاسدةً خائفةً، ربحَ البيعُ وما ربح إلّا من باع!

قبلَ السّاعةِ بساعة، كانَ طفلُ القاتلِ يلبسُ بزّة عسكرية ويحملُ بندقيّة بلاستيكيّةً ويطلقُ على شاشةِ التلفازِ فيسقطُ برميلٌ في مكانٍ ما فيضحك، ويطلقُ فيصعدُ صاروخٌ، وتهطلُ قنابل فراغيّة، ويطلقُ فيفتح جيشه نوافذَ في أجسادنا، ويطلقُ لستّة أيّامٍ ويرتاحُ في السابعِ، فيكملُ القاتل الذي لا يتعبُ ولا تأخذهُ سِنةٌ، ويضحكُ كما تضحكُ السماءُ ولا يبكي كما تبكي، قبلَها، لم يكن حرًّا إلّا من كانَ في السجنِ، ولم يكن حيًّا إلّا من ماتَ حرًّا، قبلها، كانَ الخوفُ كأنّهُ العدمُ، وكانتْ العتمةُ تملأ وجه الكونِ، وقبلها.. صار ابن الربِّ ربًّا، وفلَحَ وجوهَ الناسِ وأكل قلوبهم، فتألّموا، فصرخوا، فقتلهُم وخطبَ فوق بقايا جثثهم رعبًا بمن قطعوا ألسنتهم واقتلعوا حناجرهم حذر الصراخِ، وقالَ لهم: يا أبنائي، أكلتُ قلوبَكم كي لا تؤلمكم، وأكلتم ألسنتكم كي لا تؤلمني!

قبلَها، احتلَّ العسكرُ عقولَ الناس وبلادهم، وهجم الموتُ هجومَ الصبحِ، وصارت الحياةُ موتًا والموتُ حياة، وباعَ العسكرُ ما باعوه من لحمنا وترابنا، وفتحوا حروبًا، وربحوا خسارتنا، وتقاوَوا بضعفنا، وشدّوا أعناقنا للركوعِ وضاجعوا وجوهنا، وبدأ بناءُ الخرابِ، وبدأ اغتصابنا.

قبلَ (البعثِ) بأيّام كانتِ الحياةُ أجمل!