16-أكتوبر-2022
أنطونيو تابوكي مع روايتيبير

أنطونيو تابوكي مع روايتيه

في الفترة التي كانت فيها أوروبا تعاني من انعكاسات الحرب العالمية الأولى، صعدت إلى الحكم جملة من النزعات القومية الطامعة إلى استعادة بعض من الهيمنة المكسورة خاصة في صف مهزومي الحرب. ألمانيا التي كانت وقود الحرب بزعامتها لحلف دول المركز، وجدت نفسها بواجب الاعتراف مجبرة على الإقرار بمسؤوليتها ودفع تعويضات للحلفاء عن خسائرهم وبذلك عمقت أزمتها الاقتصادية.

لم تكن البرتغال بمعزل عن التيار الفاشي الذي ضرب أوروبا، فلمدة أربعين عامًا استطاع أنطونيو سالازار أن يحكم البرتغال بفرض دكتاتورية حكم أبرز دعائمها تفقير الشعب معرفيًا

في خضم هذا الغرق كان الرأي العام الألماني والكبرياء الوطني المجروح في انتظار الرجل الخارق والبطل المنقذ، الذي مثله أدولف هتلر بأفكاره القومية العنصرية المعادية للسامية. بدأ العمل المكثف لإعادة الأمجاد الضائعة إثر محاولة انقلاب فاشلة من طرف حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني بزعامة هتلر سنة 1923، وبحلول عام 1933 أصبح مستشارًا لألمانيا حيث عمل على إرساء دعائم نظام تحكمه النزعة الشمولية النازية حتى انتحاره سنة 1945. وفي إيطاليا كان بينيتو موسوليني قد أسس جماعة فاشية استطاعت الوصول إلى مجلس النواب كحركة سياسية سنة 1921، ثم إلى الحكم بتكليفه بتشكيل الحكومة بعد موجة من العنف والفوضى والاحتجاجات التي طالت كل شوارع روما بقيادة "سكوادريستي" الفرقة المسلحة التي شكلها الدوتشي موسوليني ليحكم بذلك البلاد حتى عام 1943.

أما في إسبانيا فدكتاتورية الجنرال فرانكو بدأت بالتشكل منذ أن شارك في قمع انتفاصة عمال المناجم في أستورياس. وفي سنة 1936، أيد الكوديو فرانكو الانقلاب الذي اندلعت بسببه الحرب الأهلية الإسبانية، في نفس السنة قررت اللجنة العسكرية للدفاع تسميته رئيسًا للحكومة، وفي 1938 أصبح رئيسًا للبلاد. حكم الجنرال إسبانيا بقبضة عسكرية سيطرت على كل مظاهر الحياة السياسية والثقافية في فترة امتدت لست وثلاثين سنة وصفت بأنها الأكثر فاشية في تاريخ البلاد.

البرتغال أيضًا لم تكن بمعزل عن التيار الفاشي الذي ضرب أوروبا، فلمدة أربعين عامًا استطاع أنطونيو سالازار أن يحكم البرتغال بفرض دكتاتورية حكم أبرز دعائمها تفقير الشعب معرفيًا، حيث طالت سياسة الأمية العامة أكثر من 9 ملايين مواطن.

مثلت هذه الفترة من التاريخ الأوروبي مادة روائية وصحفية مغرية لعديد الكتاب حول العالم ولعل من أبرزهم الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي. ففي سنة 1964، كان الكاتب الإيطالي المأخوذ بالثقافة البرتغالية قد أصبح طالبًا في جامعة بيزا، وهناك تعرف على الكثير من الكتاب والأدباء البرتغاليين، وعلى عالم ثقافي مدهش بالرغم من وضع البلاد العام المسحوق بدكتاتورية "نوفو استادو" أو الدولة الجديدة، حيث كان على الكتاب أن يعيشوا بشكل خفي تقريبًا من الرقابة التي كانت تلاحقهم. في هذا المناخ من الدكتاتورية تأتي روايته "بريرا يدعي" الصادرة سنة 1994 في إيطاليا، والتي تحولت إلى بيان سياسي للإيطاليين الذين تهافتوا على قراءتها بأعداد كبيرة، ومانيفستو لليسار الجديد الذي اعتبر أنها نقد لاذع لسلفيو برلسكوني حين تولى رئاسة الحكومة في 10 أيار/مايو 1994. ورغم أن أحداث الرواية تدور في شهر آب/ أغسطس سنة 1938، حين كانت القارة الأوروبية تدنو من كارثة الحرب العالمية الثانية، وحين كانت إيطاليا، موطن تابوكي، تحت حكم موسوليني، إلا أن الإيطاليين قد وجدوا فيها تورية للأحداث السياسية والاجتماعية، التي كانت تسيطر على الشارع الإيطالي مقيمين جسور تشابه وتطابق بين دكتاتورية سالازار وبين الدكتاتورية الإعلامية الجديدة لبرلسكوني. بمناخاتها السياسية الحادة الحاضرة بوضوح، بقيت هذه الرواية لعدة أشهر سلاحًا معارضًا لحكم برلسكوني، والشعار الذي رفع في وجه هذه السلطة اليمينية.

تكمن أهمية الرواية الصادرة في ترجمة عربية، عن الفرنسية لروز مخلوف (دار ورد 1997)، وعن الإيطالية بترجمة لمعاوية عبد المجيد (دار أثر السعودية سنة 2014)؛ في بحثها عن مسؤولية الفرد تجاه التاريخ وواجب انتمائه إلى الجماعة عبر سيرورة بطيئة ومعقدة لتشكل الوعي السياسي عند شخصية بيريرا بطل الرواية الذي اكتشف في داخله روحًا ديمقراطية، وبأهمية انتصار المثقف إلى قضايا الشعب في صراعه الحقوقي والوجودي ضد الفاشية.

تشكل هذا الوعي لدى بيريرا لم يكن وليد لحظة بعينها، بل عبر مراحل متواترة في حياته جعلته يعيش تغيرًا جذريًا في تعاطيه مع الشأن العام والشأن السياسي. فقد كانت حياته التي قضاها في الكتابة لصالح صحافة الجرائم والتحقيقات عندما كان شابًا ثم توليه شؤون الصفحة الثقافية لجريدة لشبونيا، تتسم بالرتابة وبالعيش وحيدًا في حالة حنين دائم لزوجته المتوفية التي كان يشاركها، عبر الحديث إلى صورتها المعلقة في البيت، كل تفاصيل يومه دون أي يبدي أي اهتمام لما يحدث في شوارع مدينته. ثم جاءت لحظة التغيير بعد أن "كانت لشبونة تتلألأ تحت سماء شديدة الزرقة، توقفت نسائم الأطلسي فجأة، وهب ضباب كثيف من المحيط لف المدينة في كفن القيظ"، إذ تعرف بيريرا على الشاب مونتيرو روسي الذي اتخذه كمساعد في كتابة بعض المقالات عن كبار الكتاب.

هذا الشاب كان مرآة عاكسة لحال شباب البرتغال وللروح الشبابية التي كانت عند بيريرا، كما وجد فيه بعض التشابه مع الطفل الذي حلم طوال حياته بإنجابه من زوجته المتوفية، لذلك قرر مساعدته بالدعم المادي منذ البداية، ثم بمواصلة هذا الدعم بعد أن عرف بشأن انضمامه إلى واحدة من التنظيمات اليسارية السرية المعادية لسالازار، كما قام باستضافته واستقباله وتخبئته في بيته، إلا أن شرطة المخابرات السياسية قد استطاعت الوصول إليه وقامت باغتياله في بيت بيريرا وأمام عينه. حادثة الاغتيال هذه جعلت من لحظة مواجهة النظام حتمية حياة وضرورة وجودية تجلت في نشره، بحيلة محبكة هربًا من الرقابة على كل المقالات والكتابات التي تنشر في الصحف، لمقال بعنوان "مقتل صحفي" في الجريدة تحدث فيه عن ظروف وطريقة اغتيال روسو: "اقتحم ثلاثة رجال مسلحين المنزل. قدموا أنفسهم كمخابرات سياسية لكنهم لم يظهروا أي وثيقة تثبت كلامهم... لقد مات مونتيرو روسي تحت التعذيب، مضرجًا بدمائه، وأثار الضرب بالهراوة ومخزن المسدس واضحة على الجمجمة المهشمة، الجثة موجودة حاليًا في الطابق الثاني من البناية رقم 22 في شارع دا ساوداد، منزل من يكتب هذا المقال".

تكمن أهمية "بيريرا يدعي" في بحثها عن مسؤولية الفرد تجاه التاريخ وواجب انتمائه إلى الجماعة عبر سيرورة بطيئة ومعقدة لتشكل الوعي السياسي

نشر تابوكي في جريدة "الغاتزيتينو" في أيلول/سبتمبر 1994 مقالة تحدث فيها عن ظروف وأسباب كتابة الرواية، حيث صرح أنه حين كان في زيارة للعاصمة لشبونة اشترى مجلة فقرأ فيها خبرًا عن وفاة صحفي عجوز في مستشفى سانتا ماريا، وأنه من الممكن إلقاء الوداع الأخير على الجثمان في كنيسة المستشفى. كان الصحفي العجوز منفيًا يكتب في إحدى جرائد باريس، مارس مهنته خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي في ظل حكم سالازار، نجح من خلالها في توجيه صفعة في وجه النظام بنشره مقال انتقد فيه مساؤى الدكتاتورية البرتغالية، ثم اضطر إلى الهرب من البلاد خوفًا من المخابرات والأمن البرتغالي. يقول تابوكي أن طيف ذاك الصحفي لازمه بالظهور أمامه سنة 1992 بعيد عودته من لشبونة واستمر في التحليق في السماء أمامه وكأنه يلح عليه بسرد حكايته لجميع الناس وألا تظل منسية في أرشيف النظام. أما عن سبب اختيار اسم "بريرا" فقد اعترف أنه قام بتغيير الاسم الحقيقي للصحفي متخذًا من بريرا بديلًا له، الاسم كان قد ذكر في نص أدبي قصير للشاعر الأمريكي توماس ستيرنز إليوت (ت. س. إليوت) بعنوان "What about Pereira" وهو عبارة عن حوار بين صديقين يستذكران من خلاله شخصية برتغالية غامضة لا أحد يعرف عنها شيئًا وتدعى بيريرا.

الالتزام بالكتابة في صف المهمشين والمقصيين من الرواية الرسمية للسلطة في مواجهة التاريخ، برز جليا في كتابات أنطونيو تابوكي منذ نشره روايته الأولى "ساحة إيطاليا" التي خصصها لرواية جزء من تاريخ الفوضويين في قرية بورغو التوسكانية عبر سرده من منطلق المتخيل الأدبي سيرة ثلاثة أجيال من المقاومين، يقودهم الإيطالي الحر جوزيبي غاريبلدي، أو كما اختار له تابوكي اسم غاريبالدو. يقول تابوكي في حوار له لصالح مجلة 'ليه مارتيكول دي زانج": "إنني فخور بكوني ولدت في منطقة كتوسكانا، في منطقة مخضبة بالثقافة العلمانية المعادية للفاشية، منطقة الجمهورية والفوضوية. لقد عاش الفوضويون هناك فترة مهمة من تاريخهم. ومن ثمة تناسى التاريخ هؤلاء الفوضويين، لقد محتهم إيديولوجيات أخرى. إلا أن من واجب الأدب أن يستعيد الأجزاء المنسية من التاريخ، ولهذا السبب كتبت ساحة إيطاليا".

تابوكي الذي ترجمت أعماله في أكثر من أربعين بلد، القصاص الماهر في قنص اللحظات الهاربة من تاريخ بلاد بأسرها ليقدمها لنا بلغة شيقة، أعاد تشكيل، من منطلق قضية المسؤولية الاجتماعية والسياسية للكتاب، كما حددها سارتر من خلال مفهوم الالتزام لدى الكاتب الذي لا بد أن يتدخل في شؤون الآخرين، حكاية ثلاثة أجيال من الغاريبالديين الذي لعبوا دورًا مهمًا في تاريخ إيطاليا وأوروبا، مصورًا ملاحمهم ضد رجال الـ SS (الشرطة الفاشية السرية) الذين صنعوا الجحيم في قرية بورغو بعد اجتياحها وقتل العديد من أبنائها في الساحة. بداية من أولى مشاهد الرواية في الساحة حيث سقط غاريبالدو بعد أن تلقى رصاصة في وسط جبهته ببندقية الحرس الملكي مناديًا "ليسقط الملك"، أو عن طريق دعوة غاريبالدو الناس للإغارة على مخزن البلدية الممتلئ بالحبوب في الوقت الذي تعيش فيه القرية المجاعة، ومن خلال الحديث عن انتهاكات الحرس الملك ورجال الشرطة، الذين امتهنوا خطف المقاومين من رجال القرية نحو المستنقعات المنخفضة القريبة من القرية، أين يتم الاعتداء عليهم بالضرب المبرح ثم يعيدونهم إلى الساحة محتضرين، كانت الرواية مليئة بالإشارات المضمنة لمدى الالتزام السياسي والتاريخي للكاتب الذي لم ينكره في حوار سابق له حين عبر عنه بالقول "أنا لن أنسى أبدًا، فجذوري كإنسان وكاتب موجودة هنا".

يعتبر تابوكي، مدرس مادة الإيبرولوجيا (الدراسات الإيبرية) التي تشمل إسبانيا والبرتغال في جامعة البندقية، من الكتّاب الذين يؤمنون بتدخل الصدفة والقوى الخفية في تحديد خيارات الكاتب في تأليف قصصه وحبكات رواياته، إذ يقول "تكون أحيانًا في الباحة أو في المترو، وفجأة تسقط قصة على رأسك بطريقة تشبه سقوط طابة صغيرة من الفضاء كأنها اختارتك، كما لو أن في رأسك جاذبية ما".

ومن هذا المنطلق، وحين كان سنة 1997 يطالع صفحة المتفرقات لإحدى الصحف البرتغالية تعثر بخبر معزو للحرس الوطني البرتغالي يتحدث عن العثور على جثة مجهولة الهوية مقطوعة الرأس. قادته هذه القوى الخفية بعد أسبوع، ورغم أنه كان مشغولًا بكتابة رواية أخرى، إلى البدء بكتابة رواية عن تلك الجثة. في تفاصيل الرواية يتم تكليف الصحفي فيرمينو للتحقيق حول جثة هذا الرجل وكتابة تقرير صحفي عنها، فتقوده رحلة البحث وعبر حبكة بوليسية إلى عملية تشريح للواقع البرتغالي في ما عرف بفترة الديمقراطية، فترة ما بعد سقوط دكتاتورية سالازار، التي ما تزال مؤسساتها بأيدي من يُعتبرون استمرارًا للعهد السابق. كان التعذيب الوحشي الذي تمارسه أجهزة الشرطة تجاه الطبقات الاجتماعية والأقليات العرقية المهمشة المسحوقة المادة الأساسية التي شكلت موضوع الرواية وكشفت النقاب عن جرائم جهاز الشرطة. وأما من ناحية الشخصيات فقد كانت شخصية لوتون الفوضوي الميتافيزيقي الدارس للفلسفة الألمانية أبرز مثال على جيل كامل من الشباب المسحوقين المهمشين الباحثين عن خلاصهم بانتصار قوة القانون والعدل والحق، ومن خلال العمل ضد الخضوع للقواعد التي أرستها الارستقراطية الأوروبية.

شكل مباشر وغير مباشر كانت الاهتمامات السياسية طاغية في كتابات أنطونيو تابوكي عبر حديثه، تارة عن الفاشية الإيطالية، وتارة أخرى عن الفاشية السالازارية

بشكل مباشر وغير مباشر كانت الاهتمامات السياسية طاغية في كتابات أنطونيو تابوكي عبر حديثه، تارة عن الفاشية الإيطالية، وتارة أخرى عن الفاشية السالازارية، استطاعت أعماله الروائية أن تكون محل نقد وجدال مستمر في الساحة الثقافية الإيطالية، ففي ربيع عام 1997، قرر تابوكي انتهاك القاعدة الذهبية للشكل الأدبي الإيطالي وهاجم عبر كتابة مقاله المعنون "الألباني، هو أنا" الشهير للرد في تسعة أعمدة من الصفحة الثقافية في الصحيفة الإيطالية على مقالتين نشرهما ألبرتو أرابازينو، وهو أحد ملوك الجدال الثقافي في إيطاليا، بشكل قاس حوّل مسيرة النقاش من جدال أدبي إلى معركة سياسية. كان أرابازينو قد هاجم في الأولى المثقفين الفرنسيين الذين تظاهروا ضد القانون الذي يحتم على الجميع الإعلان والوشاية عن الذين يعيشوا بلا أوراق قانونية في فرنسا، وأما الثانية فقد هاجم فيها المثقفين الإيطاليين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الدفاع عن اللاجئين الألبانيين الذين كان تابوكي أحدهم. تطور الجدال بينهما حول قضية الألبانية وتواتر الردود بتبادل الاتهامات بينهما عبر المقالات الصحفية، بتدخل الروائي وعالم اللسانيات إمبرتو إيكو، كاتبًا رأيه في القضية، ضمن مقالته الأسبوعية التي ينشرها في مجلة "الأسبريسو"، وكان فيها قد طالب المثقفين أن يهتموا بقضاياهم الخاصة، وأن لا يتدخلوا أبدا في المشكلات الراهنة. إلا أن النزعة الغرامشية لدى تابوكي تأبى أن تقبل بمثل هذه الدعوة من روائي بحجم إمبرتو إيكو وبمكانته في الحقل الثقافي، فنشر كتاب "التهاب معدة أفلاطون"، وقد جاء في سياق إعادة نشر مجموعة من المقالات التي نشرها في عديد الصحف الإيطالية، والتي كانت بالأساس في إطار الرد على جملة من القضايا الثقافية، من بينها دفاعه عن أدريانو سوفري الفيلسوف والزعيم اليساري السابق لاحد أبرز التنظيمات "الألوية الحمراء"، وزعيم حركتي "الحركة العمالية" و"النضال مستمر" الناشطة سنوات الرصاص -أي سنوات الحركات اليسارية الثورية في سبعينات القرن الماضي- الذي حكم عليه بالسجن لمدة 23 عامًا بعد اتهامه بالتحريض على اغتيال مفوض الشرطة كالاي في ميلانو. وهي القضية التي أسالت الكثير من الحبر حتى أن المؤرخ كارلو غينزبورغ خصص لها كتابا بعنوان "القاضي والمؤرخ: اعتبارات على هامش محاكمة سوفري" عن منشورات فيردييه بباريس.

في كتابه "سوء فهم صغير بلا أهمية"، وخلال محاكمة سياسية يتعرض فيها اثنان من أقرب أصدقاء شبابه إلى مفارقة عجيبة للقدر، يكون فيها الأول قاضي المحكمة، أما الثاني فهو المتهم، تظهر شخصية متخفية بين الجمهور وصامتة تحمل دفتر ملاحظات، لتكتشف أنها لا تستطيع أن تكتفي بدور المشاهد المحايد.. كهذه الشخصية لم يكتف تابوكي طوال حياته الأدبية بدور المشاهد، فقد كان حاملًا معه دفتر ملاحظاته ومسجلًا كل التفاصيل التي يمكن أن تقدم كدليل في محكمة التاريخ على عدالة قضايا المنسيين والمهمشين ضحايا الدكتاتوريات في مواجهة المد الفاشي، نجح تابوكي حتى وفاته بتاريخ الخامس والعشرين من سنة 2012، حين أعلن الناشر الفرنسي عن وفاة كاتبه في العاصمة لشبونة إثر خضوعه لعملية جراحية مستعجلة بُعيد اكتشاف انتشار مرض السرطان في كامل أعضاء جسده، بأنه يمثل صوتًا قويًا معارضًا متشبعًا بوعي ثقافي يعبر عن جماعته التي ينتمي لها.

سيرة أنطونيو تابوكي في أحد تجلياتها تعبر عن المعنى الحقيقي للمثقف العضوي الذي لا يكتب من مبدأ "الأدب لأجل الأدب"، بل من منظور قاعدة "الأدب من أجل التغيير".