04-ديسمبر-2018

صورة نيقولاي فابتزاروف مرسومة على حجر (ويكيبيديا)

ولد نيقولاي فابتزاروف في عام 1909 بمدينة بانسكو في بلغاريا، وكانت وقتها تعاني من جراح الحروب. انخرط في صفوف الحزب الشيوعي البلغاري غير الشرعي وقام مع بعض الرفاق الذين يحملون أفكارًا ثورية بتشكيل كومونة وبدأوا بنقاشات حول الشعر ومهمته الثورية وبتناول كل القضايا الوطنية. وكان شبح الفقر والبؤس والبطالة يتهدده مع رفاقه وقال:

كيف، في أعماقنا، شيئًا فشيئًا

كانت تتجمد الآمال الأخيرة؟

أثرت في نفس نيقولاي فابتزاروف الأزمات التي يتخبط فيها وطنه، فكان ثمة أكثر من 150 ألفًا من العمال في حالة بطالة تامة، منتشرين على الأرصفة، والإضرابات والمظاهرات العنيفة تملأ الشوارع. وعاش طيلة حياته عاملًا مكافحًا، وجاء شعره تصويرًا صادقًا لآلام إخوانه العمال، وتعبيرًا واقعيًا عن أمانيهم في بلوغ حياة أفضل. تقول والدته: "كان ابني يعمل كي تنزل الجنة إلى الأرض، وكان يعلم أن الناس هم الذين يصنعون الجنة".

عمل الشاعر البلغاري نيقولاي فابتزاروف في كثير من المهن الشاقة، في مصنع ورق، في المسالخ، في المحارق

وحاله حال أغلبية الشباب البلغاري آنذاك، عمل في كثير من المهن الشاقة، في مصنع ورق، في المسالخ، في المحارق، بين الآلات في سكك الحديد بين القاطرات الثقيلة، فكان عليه أن يلقم الآلة حوالي عشرة أطنان من الفحم الحجري يوميًا، حتى وهن جسده، وأخذ يبصق دمًا.

اقرأ/ي أيضًا: أوكتافيو باث.. مغامرة الشاعر

لكن لم يبعده شيء عن متابعة نضاله الوطني، فكان نيقولاي فابتزاروف ينظم القصائد، ويكتب المقالات، ويشترك في التنظيمات الشعبية التي كانت تكافح من أجل حرية الشعب البلغاري. كان يرى شعبه يستنزف بشكل ظالم، ويرى الشباب يعملون فوق طاقتهم، يعذبهم الجوع والعوز، وزاد شعوره بضرورة التضامن بين العمال للدفاع عن مصالحهم، وأصبحت الطبقة العاملة ملهمته وسطع اسمه في بلغاريا وكان شعره أنموذجًا للكفاح الفكري، وكتب قصيدة يمجد فيها النضال والجماهير الثائرة متفائلًا بالمستقبل:

افرك عينيك - وانظر
فالعالم فسيح!
العالم كامن فيك وفيّ
في هذه الجماهير
التي يسمونها: غير إنسانية،
أما أنا فأحبها
ذلك لأنها تمضي إلى الأمام
نحو الحياة الجديدة
ذلك لأنها تمضي، مناضلة!

ودق نيقولاي فابتزاروف ناقوس الخطر لدى اقتراب الحرب العالمية الثانية وأنشد مستنكرًا الحرب في قصيدتيه "عصر" في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1936 وقصيدة "تقويم" عام 1939 وكان يتحدث أمام الجماهير عن "المثالية في الحياة والشعر"، وعارض انضمام الشباب البلغاري إلى صفوف منظمات إيفان ميخايلوف الفاشستية لأنه يريد حياة أفضل بينما الفاشية ستقود بلغاريا الى الموت والخراب، فكتب:

الحرب!

والجائعون بلا عدد

الحرب

والموت اللا مجدي

الذي يهز العالم؟

عصر شراسة وحشية

في ركضه الجنوني، إلى أمام.

عهد الفولاذ المتميع

هنا، على أعتاب العالم الجديد.

*

 

مصانع كروب، اليوم، تصنع قنابل.

املأوها جيدًا، هذه القنابل!

إنها لأجلنا أيها الأخوة،

ستشرب دمنا على ميادين القتال.

املأوها بقوة، جيدًا، فنحن ملايين.

في إحدى المرات، لكي يتهرّب من الرقابة، كتب نيقولاي فابتزاروف قصيدته "إيمان" في المطبعة، وهي القصيدة الوحيدة التي لم تمر على الرقابة. وعبر فيها عن إيمانه بالأجيال المناضلة، هؤلاء الشباب المصنوع من فولاذ، أبناء الطبقة العاملة، الذين يموتون شامخي الجباه، واثقين بهذه الحياة التي يذهبون لأجلها إلى الموت وهم ينشدون.

في صيف 1940 شارك نيقولاي فابتزاروف باجتماع اتحاد الشبيبة العمالية، وتلا تقارير، وألقى أشعارًا، ونظم مؤتمرات، وأسهم في تحرير جريدة "صوت التكنيك"، وقام بتحرير صحيفة "النقد الأدبي" وأصبح محبوبًا من الجماهير لكن مرفوضًا في الأوساط الرسمية.

وكانت حينها حكومة الملك بوريس قد أقرت اتفاقية مع ألمانيا وإيطاليا في كانون الأول/يناير 1941، وأعطت الإذن للجيوش الألمانية بالمرور بالمرور في الأراضي البلغارية ووضعت جميع الخطوط الحديدية والمطارات والمرافئ تحت تصرف الجيوش الهتلرية، وقررت الحكومة تجريد الشيوعيين من كل قوة وتم طرد النواب الشيوعيين من البرلمان وأرسل الآلاف منهم الى المعتقلات. وأدرك نيقولاي فابتزاروف ورفاقه أن المهمة تقتضي انتزاع الجماهير من أنياب الفاشيست.

بطاقة عضوية فابتزاروف في اتحاد كتاب بلغارية، صدرت بعد وفاته

قبض عليه البوليس البلغاري والغستابو النازي ووضع تحت إقامة جبرية صارمة فكان عليه أن يثبت وجوده ثلاث مرات كل يوم في مقر الشرطة، وكانت جميع مراسلاته مراقبة، ومنعت المكالمات الهاتفية عنه، وبدأت فترة التعذيب الجهنمية طوال شهور، فمن جلد بالسياط الى نزع شعر وضغط الرأس بالكماشات والتحريق بالكهرباء والتعليق من الرجلين.

فكان كل هم البوليس أن ينالوا من إرادته ومقاومته وأن ينتزعوا منه الاعترافات. وفي هذا الجو القاتم في معتقله في مدينة رازلوغ البلغارية عام 1941 كتب نيقولاي فابتزاروف قصيدة لم تنته وعنوانها "كلا، لم تعد القضية قضية شعر":

تأخذُ بالكتابة، وهكذا
بدلًا عن القافية تنفجر قنبلة
وتتألق السماء بالصواريخ النارية
وتلفُ الحرائق المدينة
وتلاحظ عند ذاك برعب
أنك، لا بالحبر، وإنما بالدم تكتب.

كتب نيقولاي فابتزاروف هذه القطعة في السجن عشية إعدامه بعنوان "أغنية وداع إلى زوجتي"، وقد استطاع أن يسلمها الى زملائه السجناء في الوقت الذي كان الفاشيون يقودونه الى الإعدام رميًا بالرصاص من يوم 23 تموز/ يوليو 1942:

سآتيكِ أحيانًا في غفوتك،
مثل زائر بعيد، غير منتظر.
فلا تتركيني، أنتِ، خارجًا على الطريق
ولا توصدي بوجهي الأبواب!
سأدخل دون ضجيج، وأجلس بهدوء،
وعيناي مُسَمَّرتان، في الظلمات، على وجهك،
وعندما أكون تأملتك حتى استنفدتُ النظر
سأطوقك، ومن ثم، سأمضي.

في السادس من تموز/يوليو 1942 بدأت محاكمته، وشملت الدعاوى بعض أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وقبل إعدامه رميًا بالرصاص مع صديقه أنطون بوبوف وآخرون، أعلن نيقولاي فابتزاروف حينها "لقد عملت وناضلت في سبيل سعادة شعبي ووطني فإذا كان عليَّ أن أعاقب لأجل ذلك فأنا مستعد لتلقي العقوبة".

نيقولاي فابتزاروف: لقد عملت وناضلت في سبيل سعادة شعبي ووطني فإذا كان عليَّ أن أعاقب لأجل ذلك فأنا مستعد لتلقي العقوبة

بعد ساعات تم نقلهم الى السجن المركزي حيث أعيدت لهم ملابسهم، وفي المساء نقلوا بعربة مكشوفة الى حقل الرمي بالرصاص. جاء الكاهن وتلا صلواته الدينية وتجمع الأحبة من حول الرفاق المحكومين آملين أن يعفو الملك بوريس عنهم، ولكن الحارس نفد صبره وصرخ بهم "أسرعوا، كفى، إن لدينا أعمالًا!"، فما كان من بوبوف إلا أن بصق في وجه الحارس قائلًا "أيها الكلب! ألم يعد لديك صبر على لعق دمائنا! ستلعقها في الحال ولكن لا تنس أن ساعة عقابك آتية!".

اقرأ/ي أيضًا: نيلس هاو: في الحرب تكون الحقيقة الضحية الأولى

افترق الأحبة، وكانت مداعبات أخيرة ونظرات أخيرة. توجها بهما إلى نفق للرمي، وأصبحا وحيدين والبنادق موجهة صوبهما، وكانت التاسعة ليلًا. وقد رفض نيقولاي فابتزاروف أن يعصب عينيه أو يخبئ وجهه من الموت القادم بالرصاص، وهتفا النشيد الأحب والأكثر التصاقًا بالروح:

من يسقط في معركة الحرية

لا يموت أبدًا، لا يستطيع أن يموت!

ولكن أن نموت عندما تتعرَى الأرض

من ثمرها المسموم،

عندما يبعث الملايين

فنعم هذه هي القصيدة

هذه هي القصيدة الكاملة.

من يسقط في معركة الحرية

لا يموت أبدًا، لا يستطيع أن يموت!

 

وفي قصيدته "المعركة ضارية حقود" يصف نيقولاي فابتزاروف عبثية الحرب التي جعلت من الإنسان كائنًا سخيفًا بلا أدنى قيمة فينشد:

لقد سقطت، وسيحتل آخر مكاني.

وهذا كل شيء.

ماذا يهم هنا اسم الشخص!

سأرمى بالرصاص، ثم.. الدود!

كل هذا بسيط، منطقي.

ولكن في العاصفة

سنكون دومًا معك

يا شعبي

ذلك لأننا أحببناك.

 

وفي قصائده "نشيد امرأة" و"رسالة" ينشد نيقولاي فابتزاروف بلسان آلاف النساء والأمهات الثكالى الذين خسروا أزواجهم وأطفالهم في الحرب فيقول في نشيد امرأة:

الطمانينة القلقة

هي اليوم بالرمصاد في بيتنا الصغير.

لقد انتهت المعركة يا حبيبي،

ولكنك أنت، لا تعود.

ومع ذلك فقد استصرختك، وبكيت،

فلماذا لم تسمعني؟

لقد ذهبت

واوحشت غرفتنا حتى لأختنق.

لم أعد أسمع غير وجيب قلبي

مأخوذًا بمواجعه..

ويداي ممدودتان..

كنت أريد أن أستردك..

أنا غيورة يا فرناندس،

أكره حتى كلمة "الحرية"

هذه التي جذبتك اليوم بجنون.

ربما كنت أنت على حق، أليس كذلك؟

ربما كنت على حق يا حبيبي

ولكني مرهقة

وكم هي ثقيلة عليَ..

كم هي ثقيلة..

هذه الوحدة المخيفة

هذه المتسللة الى غرفتنا

لقد أوصد الباب عليك

وأنا أعلم أنك لن تعود.

 

  • القصائد من كتاب "فابتزاروف: شاعر بلغاريا الشهيد"، أحمد سليمان الأحمد، منشورات مكتبة المعارف في بيروت 1957.
     

اقرأ/ي أيضًا:

باسكار شاكرابورتي.. شاعر يكتب الصمت

نيكانور بارّا.. رحيل الشاعر المُناهض للشعر