نور الشريف ونجيب محفوظ توأمة فنية خالدة
11 أغسطس 2025
تدين العلاقة الفنية الوطيدة، التي جمعت الفنان الراحل نور الشريف بالأديب نجيب محفوظ، والموصوفة لاحقًا بـ "التوأمة" التي جمعت القامتين، وأنتجت أعمالًا مدهشةً كمًا وكيفًا، للفنان الكبير عادل إمام.
ففي النصف الثاني من عقد الستينيات، والمخرج حسن الإمام يفتش عن ممثلٍ بصفاتٍ خاصة؛ يلعب دور كمال عبد الجواد في ثاني روايات ثلاثية نجيب محفوظ "قصر الشوق"، عرض الدور على عادل إمام، لكن الأخير بسلامة حدسه ووعيه بذاته وبالآخرين لم ير نفسه في الشخصية؛ فاعتذر مرشحًا بدلًا منه نور الشريف، ليكون الدور بدايةً كبيرةً واستثنائيةً لنور الممثل، ونجم الأفلام المأخوذة عن روايات محفوظٍ بشكلٍ خاص.
لم يكن الزعيم، الذي يبدو أنه لم يحُز ألقابه مجانًا، يعرف نور الشريف بشكلٍ شخصيٍ، ولا يعرف أن تلك الرواية هي أول ما قرأ الأخير لنجيب محفوظ، وأنه تماهى كغيره من مجايليه، الذين زامنت طفولتهم الآمال النابتة مع صعود حركة تموز/يوليو 1952 مع بطلها الحالم كمال عبد الجواد، "الشاب الحساس المثالي الممتلئ أملًا" في البداية، والبطل التراجيدي ابن الخطأ الرومانسي فيما بعد.
لم يكن عادل يعرف كذلك، وهو في ذروة بداياته، إن كانت ستتاح له الفرصة، مستقبلًا، لتأدية دورٍ رئيسيٍ كهذا أم لا؛ لكن ما اهتدى إليه ضميره وحسه الفني هو أن ولدًا "اسمه محمد جابر ـــ شاهده يؤدي امتحان دبلوم معهد التمثيل، "عمل دور هاملت كويس، ويصلح لدور كمال عبد الجواد أفضل مني"، وبوعيه الفني لمس تلك التقاطعات ما بين شخصيتي كمال وهاملت، بقلقهما البنيوي وهمومهما الوجودية المؤرقة.
هذا ما رواه نور الشريف بنفسه لنجيب محفوظ في حوارٍ جمعهما معًا بمجلة "آخر ساعة"، عام 1980، أدارته الكاتبة نعم الباز، وأكد كلاهما خلاله أنه وجد في إبداع الآخر ضالته.
لم يكن عادل يعرف كذلك، وهو في ذروة بداياته، إن كانت ستتاح له الفرصة، مستقبلًا، لتأدية دورٍ رئيسيٍ كهذا أم لا؛ لكن ما اهتدى إليه ضميره وحسه الفني هو أن ولدًا "اسمه محمد جابر ـــ شاهده يؤدي امتحان دبلوم معهد التمثيل
في الحوار يقول نور: "قبل أن أكون ممثلا محترفًا كنت أنا (كمال عبد الجواد) الشاب الرومانسي المثالي، وأعتقد أن كل شباب مصر قبل ثورة 23 تموز/يوليو 1952 كانوا كمال عبد الجواد (....)، وأنا صغير كنت مدمن سينما، وكنا ندخل سينما (إيزيس) وسينما (الشرق) في حي السيدة زينب، كنت أتمنى أن أمثل أوليفر تويست، وحينما كبرت والتحقت بالمرحلة الإعدادية بدأ اهتمامي بالتمثيل يزيد، وقرأت الثلاثية فتمنيت أن أمثل شخصية كمال عبد الجواد في (بين القصرين)، و(قصر الشوق)"..
ليرد عليه محفوظ بحماس: "أكادُ أردد كلامك بالحرف الواحد؛ أنا فعلا رأيتك في شخصية كمال عبد الجواد وأحسست بالتوحد".
قدم نور عددًا كبيرًا من الأعمال المأخوذة عن أدب نجيب محفوظ مثل: (قصر الشوق، السراب، السكرية، الكرنك، أهل القمة، الشيطان يعظ، أرزاق يا دنيا، دنيا الله، المطارد، وصمة عار، وقلب الليل)، وبشهادة محفوظ كان نور "يدخل في نسيج رواياته" و"يتجسد" في كل شخصية بقدرة كبيرة، لـ "يجسد الخيال كما تخيلته تمامًا"، لذلك كان أديب نوبل يسعد جدًا عندما يعلم أن نور سيمثل إحدى رواياته.
لكن كل ذلك كان متوقعًا ومعقولًا في البداية، مع أداء نور لشخصيات مثل كمال في الثلاثية، وكامل في "السراب"، وحتى إسماعيل الشيخ في "الكرنك"، حيث الشاب الحالم الحائر ابن الطبقة الوسطى وضحيتها؛ لكن في الأعمال الأخرى المغايرة لمكوناته وخبرته الشخصية والفنية، استطاع نور أن يقبض على انتباه محفوظ ويفاجئه بأنه كان ممثلًا محترفًا لا مجرد مؤدٍ متوحدٍ مع شخصية تشبهه.
وبشهادة محفوظ كان نور "يدخل في نسيج رواياته" و"يتجسد" في كل شخصية بقدرة كبيرة، لـ "يجسد الخيال كما تخيلته تمامًا"
يقول محفوظ: إنه تعجب جدًا حينما رأى نور يمثل روايات أخرى غير "قصر الشوق"، أبعد ما تكون عن شخصية كمال أو الشاب الذي يبحث عن أصله وجذوره، خاصةً شخصيتي: زعتر النوري في فيلم "أهل القمة" ثم شطا الحجري في فيلم (الشيطان يعظ)، الذي يقول صاحب نوبل إنها كانت ملفتةً لنظره جدًا؛ لأنه كانت بعيدة عن المكونات الأساسية لشخصية نور:
"حينما أخبروني أنك سوف تمثل "أهل القمة" فرحت وقلقت! فرحت لأنك نجمٌ وفنانٌ كبير، وقلقت لأن الدور بعيدٌ عن مكوناتك، لكن نجاحك دل على مرونة فنية وكان امتحانًا لقدراتك". يقول نجيب محفوظ لنور، وفي موضعٍ آخر يعترف للمحاورة أنه: "نور الشريف حينما يمثل لا يكون نور الشريف، وإنما يكون الشخصية التي رسمتها (...) لذلك أنا أكون سعيد جدًا حينما أعلم أنه سيمثل رواية لي".
وبخلاف هاتين الشخصيتين اللتين انبهر محفوظ بأداء الشريف لهما تعلق نور بشخصيتين أخريين وتمنى أداءهما، هما: عويس الدغل بطل قصة "أمشير" التي تحولت إلى عمل درامي لم يشارك به نور للأسف، وجعفر الراوي في (قلب الليل)، الرواية ذات الطابع الفلسفي والإسقاطات الجريئة، التي انبهر بها نور وظل يناضل للحصول على حق أدائها لعشر سنوات، حتى تمكن من ذلك أخيرًا في أواخر الثمانينيات.
وبخلاف السينما قام نور الشريف ببطولة مسلسل "السيرة العاشورية" الناجي، المأخوذ عن "الحرافيش"، ولعب فيها دور، عاشور الناجي، مؤسس نموذج فتوة الحق.
في الحوار الذي بدا، على ما تضمنه من تصريحات مهمة، وشهادات لقامتين كبيرتين كل في مجاله ببعضهما البعض، أقرب إلى الدردشة أو الأحاديث العفوية، ظهرت بينهما تقاطعات كثيرة، أشارت إلى ما ألمح له بعض النقاد والكتاب الصحافيين من تشابه في بعض جوانب الشخصية، بحكم ظروف النشأة في منطقتين شعبيتين ذواتا تاريخ كالجمالية مهد محفوظ، والسيدة زينب مربى نور؛ بخصوصيتهما الديموغرافية والعمرانية والثقافية، فضلًا عن كون كلًا منهما ابنًا لثورة؛ (محفوظ1919، ونور 1952) رسمت أحداثها ومآلاتها ملامح طفولته ومستقبله تاليًا، فضلًا عن الافتتان بالتصوف والأضرحة وروافد الثقافة الشعبية والتراثية، ما ظهر حتى في وصف نور لعلاقته بصاحب "أولاد حارتنا"، الذي طالما لخصها بقوله: "أنا من مريدي نجيب محفوظ"، حتى سنواته الأخيرة كان نور محتفظًا بتقديره بل وانبهاره به، حتى أنه صرح بأن جائزة نوبل التي يختزل البعض أهمية نجيب محفوظ فيها هي أقل من قيمته.
في الشهر الجاري تحين ذكرى رحيل كلٍ منهما بفارق تسعة عشر يومًا، ويجتر ذكر كلٍ منهما الآخر، وتبقى المدونة السينمائية المصرية والعربية هي الأكثر حظًا باجتماع مبدعين شديدي التفرد والتميز كاللذين كاناهما نجيب محفوظ ونور الشريف.