نور الشريف: فنان الأجيال الذي لم يغب عن المشهد
11 أغسطس 2025
مرَّ عقدٌ كامل على غياب الفنان الكبير نور الشريف، لكن ما زال صوته حيًّا، وأعماله تتداول بكثافة على منصات التواصل الاجتماعي، ومشاهده من المسلسلات والأفلام تُستعاد كما لو أنها صُوّرت بالأمس. الأكثر إثارة للانتباه أن الجيل الذي لم يعاصره – جيل وُلد بعد أوج شهرته وكبر بعد وفاته – يعيد اكتشافه، ويمنحه حضورًا استثنائيًا في وجدانه، ويقتبس من حواراته وآرائه ومشاهده تعليقاتٍ على الواقع اليومي، في ظاهرة تتجاوز حدود النوستالجيا المُعتادة إلى ما يشبه "عودة نجم من المستقبل".
فمن أين ينبع هذا الحضور الطازج بعد الغياب؟ وما سر الجاذبية المتجددة لهذا الفنان تحديدًا؟
منجز استثنائي وشخصية جامعة
يرى الكاتب والناقد الفني شريف صالح أن نور الشريف لم يكن مجرد ممثل موهوب، بل كان مشروعًا متكاملًا لفنان عصامي ومثقف وواعٍ بدوره، عاش متجذرًا في مجتمعه، ونجح في أن يكون جزءًا أصيلًا من ذاكرة الناس. يقول: "لأن نور الشريف فنان استثنائي، فهو لم يكتفِ بالتمثيل، بل عمل أستاذًا في معهد الفنون المسرحية، ومُنتجًا ومخرجًا، ومثقفًا صاحب موقف. كما أن ولادته في حيّ السيدة زينب، وعصاميته، جعلاه قريبًا من الناس دومًا، وكأنه يقول لهم دائمًا: أنا واحد منكم".
ورغم أن الشريف رحل في سن لم تتجاوز السبعين، إلا أنه خلّف أرشيفًا ضخمًا متنوعًا بين السينما والمسرح والتلفزيون، وصولًا إلى الإذاعة. أرشيف لا يستعاد فقط كذكرى، بل يُقرأ كوثيقةٍ مرئية لعصرٍ كامل من التحولات الاجتماعية والسياسية، ومرآة لتطور الدراما المصرية والعربية.
الفن حين يكون مشروعًا جماعيًا
ويشير شريف صالح إلى أن المسألة تتجاوز نور الشريف بوصفه فردًا، إلى جيله بأكمله، قائلًا:
"هذه الظاهرة لا تخص نور الشريف وحده، بل تعكس الحنين إلى زمن كانت فيه الأعمال الفنية ثمرة جهد جماعي حقيقي. كان هناك كُتّاب كبار مثل وحيد حامد، أسامة أنور عكاشة، واقتباسات من نجيب محفوظ، إلى جانب مخرجين بارعين وممثلين عباقرة حتى في الأدوار الثانوية".
رحل في سن لم تتجاوز السبعين، إلا أنه خلّف أرشيفًا ضخمًا متنوعًا بين السينما والمسرح والتلفزيون، وصولًا إلى الإذاعة
هذا التكوين الفريد هو ما يجعل العودة إلى أعمال الشريف – مثل "العار" و"كتيبة الإعدام" و"لن أعيش في جلباب أبي" – عودة إلى زمنٍ فني ذي جودة وقيمة ومعنى. وما يُستعاد هنا ليس فقط أداء نور، بل ما يمثله ذلك الزمن من معايير صارمة للإتقان، وميل للتجريب المتوازن، وحرص على أن تكون الدراما مرآة للهمّ الجمعي.
ذكاء البقاء في القمة
ويؤكد صالح أن السر في بقاء نور الشريف كل تلك العقود في قلب المشهد الفني، لا يعود فقط إلى موهبته، بل إلى قدرته على اتخاذ قرارات ذكية تتعلق بالاختيار، والمغامرة، والانحياز إلى القيمة. يقول:
"كان يدرك دائمًا الشعرة الفاصلة بين العمل التجاري والجماهيري، وبين التجريب والتجديد. لهذا كان من أوائل من منحوا الفرصة لمخرجين شباب في بداياتهم مثل محمد خان وعاطف الطيب".
ولأن أعماله لم تقتصر على نوع واحد أو قالب واحد، كان أرشيفه أشبه بخريطة متعددة الطبقات، تصلح لإعادة الاكتشاف في كل مرة، ولدى كل جيل. وحتى بعد رحيله، تُكتشف له أعمال جديدة أو يُعاد تقييم ما لم يُنصف في زمنه.
في زمن السوشيال ميديا.. صوت نور لا يزال نقيًّا
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يُتداول صوت نور الشريف بكثافة في زمن "التريند" و"الميمز"؟ ولماذا أصبحت كلماته القديمة تُستعاد وكأنها كُتبت للواقع الحالي؟ يجيب شريف صالح:
"الناس تشتاق إلى فنانين لديهم همّ فكري، ووعي إنساني. واليوم، وسط فوضى المنصّات والسوشيال ميديا، بات من النادر أن تجد فنانًا يمتلك رؤية أو مشروعًا ثقافيًا، ولهذا فإن كلمات نور – سواء من ورش التمثيل أو من لقاءاته – تُقرأ اليوم كصوت عقل ونُضج في زمن الضجيج".
الموهبة ليست كافية وحدها
من جهته، يرى المخرج السينمائي أيمن عبد الحميد أن ما ميّز نور الشريف عن غيره هو إصراره على العمل، ومثابرته المستمرة. يقول:
"نور الشريف لم يتوقف عن العمل أبدًا، وهذا وحده كفيل بأن يُراكم له رصيدًا كبيرًا. الأهم من ذلك أنه كان يتعامل مع كل مشروع – حتى مع مخرج مبتدئ أو شركة صغيرة – بمنتهى الجدية والاحترام. كان فنانًا مخلصًا بشدة للفن".
ولا يرى عبد الحميد في الشريف مجرد نجم، بل مثقف حقيقي وصاحب مشروع، ما جعله يختلف عن أغلب أبناء جيله:
"كان يعامل الفن كقيمة، لا كمجرد وسيلة للشهرة أو الثراء. لم يكن يومًا مهرّجًا، بل واعيًا بمسؤوليته تجاه الناس والمجتمع، وتجاه الصناعة نفسها". ويضيف أن التنوع في اختياراته – من أفلام شعبية إلى أعمال نخبوية، ومن مسلسلات إلى مسرح – منح له القدرة على التواجد في الوعي الجمعي بطرق متعددة. وقد أتقن الدخول إلى بيوت الناس من خلال الشاشة الصغيرة، دون أن يتخلى عن طموحه الفني أو قناعته بما يقدّم.
الحنين لما كان جادًا ومخلصًا
ويشير عبد الحميد إلى تراجع واضح في القيم الفنية في الدراما المصرية المعاصرة، حيث أصبح التسويق والنجومية أهم من المضمون:
"اليوم لم يعد لدينا نجوم يمتلكون موقفًا حقيقيًا، أو همًّا مجتمعيًا. معظم المنظومة الفنية باتت محكومة بمنطق الربح والتريندات. ولهذا يعود الناس إلى نور الشريف، لأنهم يفتقدون الصدق، والجودة، والرسالة".
ويتابع موضحًا دلالة تداول مقاطع الشريف اليوم:
"ما يُتداول من أعماله ليس فقط تذكّرًا لماضٍ جميل، بل تعبير عن اشتياق لفن حقيقي. هو كان فنانًا نادرًا في التزامه، وكان مهمومًا بوطنه وصناعته، لا يخشى الخسارة في سبيل تقديم شيء يؤمن به".
يتعامل مع كل مشروع – حتى مع مخرج مبتدئ أو شركة صغيرة – بمنتهى الجدية والاحترام. كان فنانًا مخلصًا بشدة للفن
أبٌ رمزي في زمن فقد الآباء
أما الناقد الشاب حسن سلامة، فيقدم رؤية نفسية واجتماعية لعودة نور الشريف إلى وعي الأجيال الجديدة. يقول:
"جيل الألفية يحتاج إلى رمز. هو جيل نشأ في ظل تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية مزعزعة، في زمن ما بعد الثورة. كثير من آبائهم كانوا غائبين عنهم – لا بسبب الإهمال، بل نتيجة ضغوط الحياة المصرية المعاصرة".
ويضيف:
"نور الشريف يُقدَّم هنا كأبٍ رمزي، هادئ النبرة، عاقل، لديه وجهة نظر ومنطق. شخص يتحدث دون سلطة، يُنصت إليه الشاب لأنه لا يفرض، بل يشرح. وهذا نادر جدًا في زمن السوشيال ميديا والسطحية".
ويرى أن هذه العلاقة الجديدة بين نور الشريف وجيل لم يعاصره تشبه الحاجة إلى مرآة لا تزيّف الواقع، وإلى صوت ناصح دون قسوة.
وعي الاختيار.. وذكاء البقاء
ويتحدث سلامة عن أهمية اختيارات الشريف الفنية بوصفها نتاج وعيٍ إنساني وأدبي وفكري، قائلًا:
"نور كان فنانًا مرنًا، قارئًا جيدًا، واعيًا لقيمة ما يقدّمه. لهذا استثمر كثيرًا في الأدب، وفي الاقتباسات عن محفوظ. لم يكن يبحث عن عمل يحقق فقط نجاحًا تجاريًا، بل عن قيمة إنسانية مشتركة".
ولهذا السبب، يضيف، بقيت أعماله، فيما غابت أعمال لفنانين ربما كانوا أكثر موهبة أو شهرة، لكنهم لم يمتلكوا هذا الوعي المرن والبوصلة التي توجه الاختيار.
صدى الزمن.. لا يزال يتردد
أما عن تداول مقاطع الشريف على وسائل التواصل اليوم، فيرى سلامة أن له دلالتين:
"الأولى تتعلق بذكائه الفني ووعيه باختيار ما يبقى، والثانية تكشف للأسف أن الحاضر بات أكثر بؤسًا، حتى بدا أن كلمات الشريف – التي قيلت قبل سنوات – وكأنها صدى ليومنا هذا".
الحميمية الصادقة
محمود أحمد، صانع محتوى فني، يقدّم شهادة تنبع من تجربة وجدانية صافية، لا من موقع نقدي فقط. يقول:
"اختياراته لأدواره، شغفه بالحكي، صدقه في الأداء. كلها عوامل تجعل من يراه يحبه حتى ولم يكن من قد تعرف إليه سابقًا. في نهاية المطاف، الفن يخاطب المشاعر، ولم يكن هناك أصدق من نور في هذا الشأن".
ويتابع:
"أي شخص لم يرَ سابقًا أفلام مثل "سواق الأتوبيس" أو "العار" أو "كتيبة الإعدام"، حتمًا سيتأثر بها، لأنها فن حقيقي عابر للزمن".
اختياراته لأدواره، شغفه بالحكي، صدقه في الأداء. كلها عوامل تجعل من يراه يحبه حتى ولم يكن من قد تعرف إليه سابقًا
ويرى أن مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" وحده يكفي لفهم لماذا ظل نور الشريف حيًّا في وجدان الأجيال، إذ لا يزال يُشاهد ويُحب من أناس لم يكونوا قد وُلدوا حين عُرض لأول مرة.
نور الشريف.. من أيقونة رمضان إلى مرجع ثقافي وفني
يرى الناقد الفني معتز فريد أن حضور نور الشريف في وجدان الجيل الجديد لم يأتِ صدفة، بل يعود إلى ارتباط هذا الجيل من الأساس بموسم دراما رمضان، الذي كان لسنوات طويلة موسم يهيمن عليه كل من الشريف ويحيى الفخراني، تمامًا كما يعتبر عادل إمام الرقم واحد في السينما. هذا الارتباط المبكر رسّخ صورة الشريف كـ" أب" درامي لجمهور نشأ على اعتبار هذه الأسماء أعمدة التلفزيون.
لكن هناك عوامل أخرى ساهمت في هذا الحضور، منها تحوّل عملين من أبرز أعماله، الحاج متولي وعبد الغفور البرعي، إلى كلاسيكيات جديدة من منظور الجيل الحالي، بغضّ النظر عن تقييم الجيل القديم لهما. صفحات التواصل الاجتماعي لعبت دورًا كبيرًا في إعادة تقديم هذين العملين كمادة متجددة، ما جعلهما يصلان حتى لمن لم يولدوا وقت عرضهما الأول.
ويشير فريد إلى أن هذه الصفحات ساهمت أيضًا في إعادة تدوير مقابلات الشريف التلفزيونية، وهو – برأيه – أكثر فنان في جيله تحدّث في الإعلام، والأهم أنه كان الأعمق والأصدق. كان يمتلك "كواليتي وكوانتيتي" معًا؛ ثقافة واسعة، منطق واضح، ووجهة نظر صريحة، يقدّمها ببساطة تجعلها مفهومة لمختلف المستويات الثقافية. هذا جعل كثيرًا من تصريحاته القديمة تُستدعى اليوم وكأنها قيلت تعليقًا على أحداث ومواقف معاصرة، بل إن بعض تنبؤاته الفنية والفكرية تحققت حرفيًا في عيون المتابعين.
ويضيف أن الشريف امتلك القدرة النادرة على الجمع بين الوصول للجمهور العريض بأعمال شعبية، وبين كسب احترام الطبقات المثقفة عبر مشروعات فنية متنوعة وجريئة. لم يتردد في خوض تجارب في الرعب والخيال العلمي والأكشن، إلى جانب الدراما الاجتماعية والفلسفية التي تناولت قضايا مثل الوجود والعدم، بل وتجسيد شخصيات ملحدة تطرح أسئلة حول ماهية الإله. كما كان أكثر ممثل قدّم روايات نجيب محفوظ على الشاشة، ما منح مسيرته بعدًا نخبويًا إلى جانب الشعبية.
ويرى فريد أن إجابة السؤال حول سر اعتباره "مرجعًا" تكمن ضمنيًا في عمقه وصدقه، سواء في أعماله أو مواقفه. فهو لم يكتفِ بالأداء أمام الكاميرا، بل عبّر في ورش عمل ومحاضرات – مثل ورشته الشهيرة في الكويت – عن رؤيته في التمثيل وانتقد الكليشيهات السائدة، وهي مقاطع ما زالت تُستشهد بها اليوم. أضف إلى ذلك صفاء نفسه، إذ كان يرشّح زملاءه لأدوار عُرضت عليه، مثل دوره في البريء الذي اقترح أن يؤديه أحمد زكي، وحرصه على الاعتراف بفضل عادل إمام في منحه فرصته الأولى في بين القصرين.
واختياراته الفنية كانت مغامرة واعية، من الإخوة كرامازوف وقلب الليل إلى سواق الأوتوبيس وأهل القمة، مرورًا بأفلام سياسية مثل: ناجي العلي وليلة البيبي دول التي جرّت عليه أزمات في مصر وخارجها. وحتى في أعماله الاجتماعية مثل الحاج متولي والعطار والسبع بنات، كان يستند إلى مراجع دينية وأدبية في بناء الشخصيات والحبكة.
أرشيف لم يُكتشف بعد
أحد مسؤولي تحرير صفحة "الكاتب"، يضيف بُعدًا آخر للحديث، مؤكدًا أن حضور نور الشريف المتجدد يرتبط بعاملين: استمرارية عرض أعماله، وتداول أرشيفه الحواري. يقول:
"بدأت الناس في مشاهدة أعماله كأنها المرة الأولى، فلاحظوا تركيزه الشديد في اختياراته. فالذي قاله خلال سنوات خلت، يبقى مناسبًا للحظة الراهنة أكثر من أي وقت آخر".
ويشير إلى تداول ورشة التمثيل التي قدّمها الشريف في الكويت كمثال على عمق تفكيره الفني، موضحًا:
"كان نور يحترم مهنته لأقصى درجة، ويعمل على تفاصيل الشخصية والنصّ المكتوب باهتمام نادر. وعندما نراه يتحدث، نشعر أننا نتعلم شيئًا حقيقيًا".
ويختم بالإشارة إلى وجود أعمال كاملة للشريف لم تنل حظها من المشاهدة أو النقد، مثل فيلم "الكلام في الممنوع" عن الفتنة الطائفية، أو "خيط أبيض" عن القضية الفلسطينية، مشيرًا إلى أن أرشيف الشريف "كنز لم يُنقّب فيه بعد".