13-مايو-2019

مريم غنبريان/ إيران

لم تفلح قصيدة المجاز واللغة والقضايا بإنجاز تحقّق شعري يمكن أن يضاف إلى السيرة اللامعة للشعر العربي في مراحله ونماذجه الكبرى، بل على العكس ظهرت عبارة عن مجزرة لغوية لم تكن معها إمكانية لاستنطاقها، أو الإصغاء إليها، أو فهمها. فباسم تفجير اللغة، واكتشاف بعدها الجوّاني والغائر قدمت تراكيب بدا من العسير معرفة العلاقة بين الكلمات المتجاورة فيها من جهة، وبينها وبين ما تشير إليه/ما تود الإشارة إليه من جهة أخرى. وباسم المجاز الذي تعتبره أسّ الشعر والكتابة الشعرية غرقت في بحيرات لا نهائية تتصارع فيها الدوال مع المدلولات صراعًا عبثيًا لا يفضي ولا ينتهي.

ساهمت قصيدة المجاز واللغة بتخريب الشعر العربي، وقدمت نماذج مشوهة للشعر في نسخته الحديثة

وباسم القضايا أسست وحمت مفاهيم لم يزل النظام الاستبدادي في المنطقة العربية (السوري، على سبيل المثال الدموي) يبني عليها استمراره في السلطة والتسلط والعسف والجور والإجرام ويبني عليها تأبّده أيضًا، من مثل: مواجهة الصهيونية والإمبريالية والرجعية وأدواتها في الداخل وغير ذلك... ونتيجة لعجزها عن كتابة موضوعات حرة وشعرية أسست لصيغ ساهمت بتخريب، ليس الشعر فحسب، بل مفهوم الشعر في ثقافة القارئ والدارس على حد سواء، كذلك حاولت بجهد كبير إعلاء نفسها عن الناس الذين هم-كما ترى إليهم- رعاع، ومتخلفون، وجهلة لا يقرؤون، ويفتقدون للثقافة التي تؤهلهم لمجاراة الشعراء الحديثين في عليائهم... فاتخذت لنفسها مكانًا عاليًا ونائيًا في إحدى سماوات الله، وتركت الناس لمصيرهم الذي يقرره الطغاة المسموح لهم بكل شيء، انطلاقًا من السماح الذي منحه الشعراء لأنفسهم! (يحق للشاعر ما لا يحق لغيره).

اقرأ/ي أيضًا: محمد الماغوط.. شاعر الشفوية المضادة

على هذا فقد ساهمت قصيدة المجاز واللغة بتخريب الشعر العربي، وقدمت نماذج مشوهة للشعر في نسخته الحديثة. لم يقتصر هذا الفشل، أو هذا التخريب الذي قامت به على المرحلة التي نشأت فيها فحسب (خمسينيات وستينيات القرن العشرين)، بل امتد إلى المراحل اللاحقة وأثر على الشعراء الذي واظبوا/ويواظبون على كتابة هذا الشكل وهذا النوع. فلم تظهر في المراحل اللاحقة إضافات أو انحرافات مؤثرة على قصيدة الحداثة اللغوية تلك، بل بقيت تدور ضمن فلكها ذاته، وإن ظهرت بعض المحاولات لبعض الشعراء في إثارة بعض الشكوك حول تلك القصيدة، فإنها بقيت محاولات فردية، مبعثرة، غير مؤثرة، بل تم النظر إليها بوصفها تنتمي إلى تلك السلالة نفسها.

هذا الأمر يدفعنا للقول إن هذه القصيدة/قصيدة اللغة والمجاز والقضايا وفق النماذج المقدمة حتى الآن هي قصيدة أفلت.

كذلك الأمر عندما تمردت القصيدة على نفسها وانقلبت لتتناول تفاصيل الإنسان وشؤونه اليومية، عبر لغة هي أقرب للغة الناس ونظرت إلى اللغة على الضد من بلاغيتها وتقعّرها ومجازيتها الموغلة في الإسراف، وذلك فيما عُرف بالقصيدة الشفوية. فقد غرقت تلك القصيدة بتفاصيل لا تقول شيئًا، وانحدرت باللغة من مستوى الكتابة إلى مستوى الحكي والثرثرة، فصار القارئ مضطرًا لقراءة صفحات كثيرة كأنه يقرأ نصًا سرديًا يُخبره عن شيء ما، ويمكن الاستعاضة عنه بقراءة خبر، أو بجلسة نميمة! فبدت القصيدة الشفوية هذه مجرد تراكم غير منتج للتفاصيل من جهة، وثرثرة لا تؤدي إلى أي معنى من جهة أخرى.

إن السلالة الماغوطية (نسبة إلى محمد الماغوط) الواسعة الانتشار في الشعر العربي ورثت عنه شكلانية سطحية، إنما لم تستطع أن تكمل الطريقة الخاصة التي انتهجها في شعره، إن من حيث عمق موضوعاته غالبًا، أو من حيث جماليته غالبًا في استعمال اللغة. إن قوة الطبيعة الشخصية للماغوط، وإن أثرت فيمن أتى بعده من الشعراء، لكنها كانت سدًّا منيعاً أمامهم، منعتهم من الاقتراب من عمق قصائده وجماليتها، لذلك اكتفوا بوراثته سطحيًا فحسب.

إن قوة تأثير الماغوط، أيضًا، منعت شاعراً آخر من التأثير في جيله أو الأجيال اللاحقة هو رياض الصالح الحسين. لذلك بقيت تجربة الحسين في مرحلته (سبعينيات القرن الفائت) محصورة ضمن تداول ضيق، بالإضافة إلى أنه، وفق التصنيفات النقدية، كان محسوبًا على السلالة الماغوطية.

انتشر الحسين على نحو كبير إبان انطلاق الثورة السورية 2011 فقد طبعت أعماله الكاملة أكثر من مرة، إن ورقيًا، أو إلكترونيًا، الأمر الذي يشير إلى أنه أعيد اكتشافه، حيث إنه كتب عن سوريا "التعيسة / كعظمة بين فكي كلب"، وعن الحرية والمجازر والرصاص والمعتقلات وغيرها مما يجري في سوريا بفعل نظام البراميل، الأمر الذي جعله حاضرًا في المجزرة التي يرتكبها هذا النظام وحلفاؤه بحق السوريين. إن وجوده في هذه المرحلة الفاصلة من التاريخ السوري لدلالة على رابطة القربى التي تربط شعره مع الناس في بلده الذي يتدمر.

لذلك، يمكن وضع الماغوط والحسين ضمن ما يمكن تسميته: "الشفوية المضادة"، فيما الآخرون، غالبًا، يمكن وضعهم ضمن عنوان: "الشفوية السطحية" أو شفوية الـ"حكي" والثرثرة، التي ساهمت أيضًا بتخريب الشعر، إضافة لما قامت به الحداثة الشعرية.

يمكن وضع الماغوط والحسين ضمن ما يمكن تسميته: "الشفوية المضادة"، فيما الآخرون، غالبًا، يمكن وضعهم ضمن عنوان: "الشفوية السطحية"

ونتيجة لهذه الانزلاقات الخطيرة التي ارتكبتها ووقعت فيها الشفوية، بل أكثر، أسست لها، يمكن اعتبارها كذلك الأمر قصيدة أفلت.

اقرأ/ي أيضًا: 5 مجموعات أساسية في تاريخ قصيدة النثر العربية

ربما تكون محاولات تحديث القصيدة العربية عبر مشروع الحداثة، أو عبر الشفوية، والشفوية المضادة، وغير ذلك، هي ذاتها محاولات إحياء الشعر  كالتي قام بها، على سبيل المثال، محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ ابراهيم وعلي الجارم وغيرهم مما عرف بـ"المدرسة الإحيائية".. وهي استمرار للحركات التجديدية الكثيرة: كـ "الديوان" التي أسسها عباس محمود العقاد وإبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري... وحركة أبوللو، وغيرها... لكن الملاحظ أن تلك الحركات والمحاولات جميعها فشلت في التأسيس لقصيدة يمكن أن تكون متابعة وتراكمًا للتراث الشعري العربي الباذخ.

إن وجود شعراء مهمين في تلك المدارس والحركات الإحيائية والتجديدية، كأحمد شوقي مثلًا في مرحلة، ونزار قباني مثلًا في مرحلة أخرى، لم يستطع أن يساعد في أن يتخذ الشعر العربي المكانة الرحبة والعالية التي كان عليها، فبقي قباني فردًا مفردًا في التاريخ الشعري الحديث، إنما ونتيجة ظروف عديدة منها الهجوم الذي تعرضت له قصيدته منذ ظهورها، ومنها أيضًا الظروف البائسة التي يعيشها الشعر العربي برمته، لم يتم التأسيس على قصيدته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الشعرية العربية.

الشعر من أقدم الفنون التعبيرية التي ظهرت عبر التاريخ، إن لم يكن أقدمها. وقد ظهر بأشكال مختلفة بين ثقافات الأمم، فقد بدأ ملحميًا في مكان، فيما لم يعرف مكان آخر هذا الشكل. بعض الأمم كانت تغنّيه، وبعض الأمم كانت تلقيه (العرب مثلًا). وقد شهد تطورات وتغييرات مختلفة حتى ضمن الثقافة الواحدة، هذه التغييرات كانت تشير إلى ضرورة موضوعية، وليست فقط فنية تستوجب تغييره، كالتغيير الذي أجراه أبو تمام، وأبو نواس وغيرهما... التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي لأمة هو الذي يقتضي تغيير أشكال التعبير. لم يسخر أبو نواس من القصيدة الطللية لأن مزاجه الشعري اقتضى ذلك، بل لأن الدولة العباسية في تلك الأثناء، وقد وصلت إلى مراحل متقدمة من التطور العمراني والثقافي، كانت قد جعلت من فكرة الأطلال ذاتها تبدو، في ذلك الزمن، وكأنها شيء من الخرافة التي لا وجود لها إلا في أذهان متخلفة! النهضة العمرانية المترافقة مع النهضة الثقافية التي أحلت مفهوم "الكتابة" في المرتبة الأولى ثقافيًا جعلت أبا نواس يسخر من واحدة من أعظم الصيغ التي ابتكرها شعراء العربية في جاهليتهم: الطلل. التغييرات التي لجأ إليها أولئك الشعراء في تلك العصور وابتكروها أكملت ذلك المعمار الباذخ للقصيدة العربية ضمن شروطها الدقيقة ومعاييرها الصارمة.

لكن، كما يبدو فإن القصيدة- مطلق قصيدة استفذت إمكانياتها إن في القول، أو في شكل ظهورها، والدليل فشل المحاولات التجديدية جميعها، وإن كنت أعتبر أن الحداثة الشعرية هي الإعلان الأكثر سوءًا عن هذا الفشل، إذ ترافق ذلك مع تخريب لمفهوم الشعر وللذائقة الشعرية وللثقافة المرافقة برمتها.

الشعر يظهر على شكل قصيدة، وما لم يكن ظهوره على شكل قصيدة فلا يسمى شعرًا بأية حال. إن وجود الشعر في أشكال كتابية أو فنية أخرى، أو في واقع ما: كظهوره لحظة تفتح الوردة، أو غياب الشمس، إلخ... فهذا ظهور شعري لا يؤيد وجود القصيدة واستمرارها، بل يؤيد وجود الشعرية.

الشعر يوجد في القصيدة فقط، أما الشعرية ففي كل مكان ربما، وتكمن المقدرة الشعرية، كاحتمال كبير، في اكتشاف الشعرية المتوغلة في الأشياء. ثمة الكثير من الآراء تقول باستحالة انتهاء الشعر لأنه موجود في تفاصل الحياة كلها، وطالما الحياة مستمرة فالشعر مستمر. تنطوي هذه الآراء على عدم التمييز بين الشعر الذي لا يكون إلا في القصيدة، وبين الشعرية التي تكون في غيرها. الشعرية، ربما، لا يمكن أن تنتهي طالما أن الحياة متواصلة، أما الشعر فيمكن أن ينتهي، على الأقل، بسبب العمر، الشعر بوصفه قصيدة. تكون الشعرية في الرواية والقصة والسينما والمقالة والكتابات الأدبية والفكرية وغيرها... كذلك في الحقول والأماكن والشمس والنجوم وغيرها... وفي الجماليات التي اكتشفها بعضهم في القبح! لذلك فالأجدى والأكثر صحة أن نتكلم عن شعرية في تلك الأشياء، وليس عن شعر.

الشعر يوجد في القصيدة فقط، أما الشعرية ففي كل مكان ربما، وتكمن المقدرة الشعرية، كاحتمال كبير، في اكتشاف الشعرية المتوغلة في الأشياء

بالتأكيد، ثمة كتابات منتشرة الآن وتعجبنا، هذه الكتابة التي تعجبنا هي كتابة شعرية وليست شعرًا، وتعجبنا ليست لأنها شعر، بل لأنها شعرية. ما نقرؤه تحت مسمى: قصيدة، ونعجب به، هو غالبًا، كتابة شعرية. نعجب به لأنه كلام جميل ربما، وتشبيهات جميلة ربما، ومفارقات جميلة ربما... وهذا نوع من الشعرية في الكتابة، لكن الشعر أمر مختلف. ما يجعلنا نقول عنه شعرًا، أو نسميه قصيدة هو، من جانب: عدم التمييز بين الشعر والشعرية، ومن جانب آخر: الترابط الوثيق بين الشعر والجمال الذي يجعلنا نقول عن كل شعرية إنها شعر.

اقرأ/ي أيضًا: رياض الصالح الحسين.. بعيدًا عن التصفيق والتهليل

شاخ الشعر وانتهى عمره، وقد منح إمكانيات القول لطرائق وأشكال تعبيرية أخرى، وما إصرار الشعراء على كتابة القصيدة حتى الآن إلا استجابة لقوة الشعر في بنيتنا النفسية والتاريخية والثقافية، هي نوع من التفاعل مع رائحته المنتشرة في الأجواء بكل قوة. إذ إننا لم نزل، كناطقين بالعربية، نردد، حتى الآن، بإعجاب بالغ الكثير من أبيات امرئ القيس وأبي نواس والمعري والمتنبي وسواهم... وكأنهم موجودون بيننا، وكأنهم جيراننا! انطلاقًا من رسوخ الشعر فينا فإننا نكتبه دون أن نتساءل، حقيقة، عن تأثيره في حياتنا، وعن جدواه، أو عن هذا الذي نكتبه: هل هو شعر أم شكل كتابي آخر نعتقد أنه شعر لكن في الحقيقة ليس هو، إذ إننا لا نستطيع معرفة الشعر إلا في القصيدة، وهذه أفلت.

 

  • جزء من كتاب لم يُنشر بعد، بعنوان: "عودة الشفوية - نهاية الشعر العربي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

رياض الصالح الحسين .. شاعر ضدّ النسيان

قصيدة النثر في مواجهة التحالفات القديمة