08-مايو-2018

لاريسا صنصور/ فلسطين

آآآخ... تمتمت متألمًا للمرة المليون من انغراز إبرة المهدئات في مؤخرتي، واستمرت الـ"آخ" دهرًا رافق التدفق الحارق للمواد التي لم تبدأ بإعطاء مفعولها بعد.

غريب هذا الأمر الذي يبدو لي كمؤامرة كونية ضدي شخصية لتذكرني بجريمتي كلما ألمّ بي الوجع، من يا ترى علمني أن أتأوّه هكذا بالذات، علمًا أن والدتي ماتت عندما كنت بالثانية من عمري، ليتزوج والدي بأخرى بعدها بعام بالضبط، ولتنجب بعدها قاسم أخي الأصغر، الأخ غير الشقيق، ترى لماذا لا نقول مثلًا "شقيق" عندما نتأوه؟ تلك بالضبط خيوط المؤامرة المحبوكة بحنكة.

غريب هذا اللولب بين البداية والنهاية، فمن أين أبدأ بحكايتي؟ أمن آدم الذي نزل عن الشجرة  كي يتزوج وينجب قاتلًا؟ أم مِن أمّي التي غادرت الدنيا قبل أن تكمل رضاعتي "حولين كاملين"، أم من زوجة أبي التي كان أكبر إنجازٍ بحياتها هو إنجاب أخي الأصغر مع نصف دستة من الأخوات لا محل لهنّ من الإعراب، أما الإنجاز الثاني فكان إقناع أبي بتسجيل بيته على اسمها. ومن ثمّ أخي الذي لم يحمل شاكوشًا بحياته ورغم ذلك حصل على بيتٍ بنيته مع بيتي بعرقي وأموالي، كان ذلك شرط والدي، أو على سبيل الدقة شرط زوجته، حتى يوافق على حصولي على الأرض التي بنيت عليها منزلي. أخي الذي نجح دومًا في تعبيد طريق الغش والخداع في المدارس ودار المعلمين حتى صار أستاذًا؛ أستاذًا لم يقرأ كتابًا في حياته يومًا؛ أستاذًا لو سجنوه في مكتبة دهرًا لتنسك عن الكتب تنسّك الراهب عن النساء؛ أستاذًا يتصل بي حتى أقرأ له مكاتيبه التي تأتيه سواء بلغته أو بلغة الدولة وتحمل أرقامًا أكبر مما يستطيع استيعابه.

أم ربما أبدأ من المشهد السياسي العام في الاستقطاب بين عرب ويهود في حرب تلوح في الأفق، الحرب تتسع للجميع  كـ"شمسية بابا  الكبير"، مجزرة صغيرة في سلفيت، صغيرة لأن كل الأرقام صغيرة قياسًا بستة ملايين، والمقارنة ممنوعة طبعًا، المجزرة تجرّ مظاهرات في مدن الداخل الفلسطيني لتجر قتيلًا هنا وقتيلًا هناك، لتجر مظاهرات أشد حدة تحمل مجازر أكبر قليلًا، لتتوج بمظاهرات مضادة مدعومة بتغاضي أجهزة أمن الدولة تؤدي إلى حكم عسكري ومنع تجول في الليل، بينما تبدأ الدولة بجمع أكبر عدد من جنود الاحتياط من أجل حربها العادلة ضد الأشرار.

كل هذا صار ماضيًا الآن، ماضيًا طويته مع مديتي التي طعنته بها عندم هجم علي ليضربني بعد أن صرخت بوجه زوجته، هل يهم حقًا السبب؟ رغم أنّ قلاقل القيل والقال هي محور حياتنا في مصائد الفئران التي نعيش فيها، إلا أنني أود أن أدّعي أنني لا أذكر تمامًا، ولكنني  حتمًا أذكر بكائي لساعات كي أحصل على لعبة تشبه لعبة أخي دون فائدة، وأذكر ملابسي مقابل ملابسه! وأذكر أنّي أطلقت يدي بكل قوتي حتى ارتطم الغمد بصدره ليقع أرضًا مرة واحدة، كما وأذكر برودة أعصابي وأنا أدخل لأستحم وأعود لأجلس في الصالون كي أفكر بخطوتي القادمة، في الحقيقة أذكر السبب تمامًا فقد كان بسبب صراخها علي بعد أن صعدت الدرج المشترك لبيتينا ببسطار العمل بينما كانت تشطف الدرج فصارت تعيرني أني مطلّق وأبتر (بكلمات أكثر رخصًا) وغيره من الكلام الذي كانت تتقنه. ولكن النسيان والتناسي هي نعمة الرب للبشر لذا وجب علينا استعمالها.

جلست في الصالون أمام الجثّة أفكّر: ماذا علي أن أفعل الآن؟

بيتي كان معروضًا للبيع منذ زمن، كي أتخلص من النكد اليومي مع أخي وزوجته وأبنائه الشياطين، كان جاري قد عرض علي مبلغًا معقولًا لكنه غير كافٍ كنت قد رفضته، ولكنني أعرف أن المبلغ جاهز عنده في خزنته فهو لا يثق بالبنوك بتاتًا. وكنت قد اقتنعت بكلامه عن ضرورة خزن الذهب وتلك كانت مدّخراتي وهي جاهزة.

منع التجول ساري المفعول منذ التاسعة مساءً حتى السادسة صباحًا، فطُبول الحرب تقرع منذ ردح من الزمن، ورئيس الوزراء من الحزب الذي دفع لي 300 شيكل بالصوت، أي ضعف الحزب الذي يليه، قد خرج أمس متجهمًا متوجهًا للجمهور أن شعب إسرائيل جاهز لدفع أي ثمن من أجل منع العدو من اكتساب قدرات عسكرية تغير ميزان القوى وأن الحق الأخلاقي وحكومة اليسار الصهيوني والحق والتاريخي والحق الربّاني يسمحان له بالقيام بكل ما يحتاج من هجومات "دفاعية".

اتصلت بجاري توًّا وكان مستيقظًا لحسن حظّي وكان قد حضّر العقد سابقًا قبل أن أتراجع بسبب المبلغ، فمضيت وحصلت على الثمن بخمسين أونصة سويسرية صارت خلال عام واحد تشتري خمسين بيتًا مثل بيتي، إن لم يسوّ المنزل بالأرض أصلًا.

تسلّلت بملابسي وصرة المدّخرات فقط لم أخاطر بالمغادرة عن طريق المطار، فحتمًا قد وصل شرطة الدولة المشغولة إشعار بجريمة قتل من الدرجة الثالثة، يسبقه حادث قتل من الدرجة الثانية عندما يكون المقتول تابعًا للدين الصحيح، وفي الدرجة الأولى يوجد الجنود الذين تحاول جهدًا هذه الدولة المحافظة على معادلة واحد إلى عشرة بمعنى عشرة قتلى من الأغيار مقابل كل جندي مقتول. وهنا تمامًا كان انشغال موارد الدولة قد توجهت بعد أن بدأت الحرب كعادتها فجأة بحزمة صواريخ وطائرات تعبر الحدود المفتعلة بين البشر لتعلّل سبب وجودها أصلًا.

كانت خطتي بالعبور إلى مصر عبر أنفاق غزة، وصلت الضفّة أولًا وهناك نجحت بتحصيل دخول إلى غزة، فدخول غزة أمر سهل دومًا عكس الخروج منها، لأجد مهرّبًا أنفاق يرسلني إلى العريش، وهناك تمامًا بدأ التدهور السريع في اجتياحات عسكرية لكل القرى ومجازر أقل صغرًا عن سابقتها، تقابلها مظاهرات مضادة و"مشاهد عنف" بنظر الحكومة العبرية تؤكد ذلك الكره الدفين واللاسامية المتغلغلة في دم هؤلاء الأغيار، لتطلق العنان لجيشها بتجميع ناكري الجميل هؤلاء ممن عاشوا برعاية الدولة اليهودية في جيتوهات، وتصنيفهم إلى "جيدين" ذوي ماضٍ يدعم ولاءهم يبقون بقاء مشروطًا، والباقي يتم ترحيلهم بشكل ديمقراطي حيث يختارون من جهات الأرض الأربعة ما يعجبهم.

اشتريت جوازي المصري المزور وتذكرة باتجاه واحد إلى أستراليا، وبين بين أحاول جمع أخبار الوطن وجرائم القتل المفتوحة هناك، لكن يبدو أن كل ذلك قد ضاع في أرقام أكبر من أن تؤثر فيها إضافة قتيل آخر اليها في المعادلة.

حدث ذلك قبل عشرين عامًا، رغم أن معادلة الجندي بعشرة نجحت لكن الثمن كان فادحًا بالنسبة للدولة الصغيرة التي كادت أن تفرغ من مهاجريها ذوي الجوازات المزدوجة، لولا لطف ربهم يهوى ولطف أمريكا وروسيا اللتين بعد أن باعتا مخزونيهما من السلاح لطرفي النزاع تدخلتا لوقف الحرب التي انتهت كما بدأت... فجأة، واختفت جريمتي كما اختفت قريتي وعشرات القرى الأخرى في حرارة الأحداث، رغم أن بعض المهجرين عادوا متفرقين بسبب حاجة الدولة إلى قوى عاملة، ومن أفضل من هؤلاء العرب الجيدين لضخ الدماء في حفنات الإسمنت، ولتثبت من جديد أن العرب كالطفيليات، يحتاجون لكي يكونوا في أفضل حالاتهم إلى جسدٍ مضيف يلتصقون به فيستفيد منهم ويعتاشون على فضلاته، لكن عندما تتركهم وحدهم يأكلون بعضهم بعضًا.

أما أنا فما زلت أفكر كيف كافأني الرب على ما فعلت، بل وحصلت على لجوء سياسي ومعاش شهري هنا، خصوصًا أن أخي قد استشهد في النكبة.

انتظرت انتقام الرب ثلاثين عامًا، توقعت أن يعاقبني في زوجتي الأسترالية أو ابني الوحيد الذي أتى بفضل الأنابيب وقد سميته على اسم عمّه، أو أموالي التي تكدست فوق حاجتي إليها.

لكن عقابي جاء على صيغة حلمٍ يومي، حلم صار يراودني في النوم واليقظة.. أحلم عندما كنت بالسابعة من عمري أجلس أنا وأخي تحت السفرجلة في حوش البيت، لا نجد أي سكين نتقاسم به الحبّة الوحيدة التي استطعنا الوصول إليها فينتش كلّ منا نتشة ويعيده إلى جليسه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أريد أن أكتب

قبح السماء