18-ديسمبر-2015

مازن معروف (1972)

ينجز الشاعر والصحافيّ والمترجم الفلسطيني مازن معروف (1978) في باكورته القصصيّة "نكات للمسلحّين" (دار رياض الريس، 2015) مجالاتٍ سرديّة مُقيمة في "الأنا"، مجالاتٌ تضع المتلقي من مفتتَح القصّ إلى خاتمته في قلب شعور غامر بالغرابة.

سحرُ القص، عند مازن معروف، يكمن في بنية سردية يفيض من جنباتها مخيالٌ بالغُ الثراء

منشأ هذه الغرابة يتأسّس، غالبًا، على تلك القدرة الساحرة في تجنيب السرد أيّ رتابة أسلوبيّة (لغويّة) من النوع الذي يصيب السرد عادة. سحرُ القص، عند صاحب "ملاك على حبل الغسيل" (2012)، يكمن في تلك البنية السردية المحكَمة إذ يفيض من جنباتها مخيالٌ بالغُ الثراء. مخيالٌ ينقل ثيماتٍ، تبدو في الظاهر شائعة الاستخدام ونمطيّة، إلى حيز ومزاج من الفاتنازيا الحادة التي تعكس في ذهن القارئ ذلك الانطباع بالجدّة الخالصة والحيوية والحاجة إلى التفكير فعلًا في التعاطي مع هذه القراءة كمتعة خالصة.

أقول إنّه، في هذا السياق الغرائبيّ، يمكن للقارئ أن يفكّر، فعلًا، بالقراءة كفعل اندهاش أيضًا بهذا النمط من القصّ. الدهشة في الوصول إلى حد التفكير الجديّ بالاقامة في خيال ذلك الطفل (الأنا) المتكلّم الذي ينوي، مثلًا، تركيب عين زجاجية لأبيه حتى يغدو قادرًا بشكله المرعب على التعامل مع واقع مسلحي الشوارع. 

إنه، أيضًا، التفكير الجديّ بهذا النوع من القص الذي يشوش العلاقة مع الاشياء أو يجعل نبتة الفلفل، مثلًا، روحًا تتفاعل أو أرواحَ شخوص حيّة إلى درجة يخيل للمتلقيّ أن هذه النبتة كانت تلزم مزاج السرد بالذات. وهو التفكير الممتعُ ذاتُه، بتلك البقرة مثالًا، ككائن رمزاني من شأن سرد ساحر بهذا الوزن أن يقيمها، شخصًا، في نسيج القصة الرمزي (قصة سينما ص 67). إنّه التفكير في براعة تمرير خبر موت يفترض أنه صادمٌ لا باعتباره صدمة أو حدثًا كارثيًّا داخل السرد، بل كوصلة أسلوبية يحتاجها السرد كي يكمل هذا التنفس البطيء.

يستثمر سرد صاحب "الكاميرا لا تلتقط العصافير" (2010) معجمًا لغويًا مقنّنًا إلى حد ما. تبدو خبرة الترجمة واضحة في شغل الكاتب القصصيّ. إنه معجم البيت والعائلة والشارع والبيئة الضيقة المحيطة. التقنين اللغويّ يخدم، بالضرورة، هذا الأسلوب في تقديم متن محكم ببساطته وغرائبيته الساحرة في آن. 

في "نكات للمسلحين"، التقنين اللغويّ يخدم تقديم متن محكم ببساطته وغرائبيته الساحرة في آن

الثراء الأسلوبيّ يتركز عند الكاتب في قدرته على تدوير هذا المعجم في بنية السرد بأناقة الجمل القصيرة دون الحاجة إلى بهورات سردية أو مطولات قد تساهم في تشتيت ذهن القارئ عن مغزى ومتعة القصّ الاصليّ. إنه أسلوب، تلمع فيه المجازات والصور التي يحدس القارئ، في تراكيب واضحة، بمنابتها الشعريّة في مزاج القاصّ لولا أنّها موظّفة، هنا، بشكل يلائم عملية التخييل الجارية في مجمل مفاصل المتن.

يمكن القول، خلاصةً، إنّ هذه القصص يجمعها خيط شعوريّ واحد. ليست قصصًا منفصلة بطبيعة الحال، بل هي اختراعات سردية فائقة بالعدة المعجمية البسيطة التي، فيها، مما يشبه شذرات السيرة، القدر الكبير. اختراعاتٌ يمكن للقاص أن يمارس من خلالها لعبًا وتخليطًا بالأشياء والصور والأشخاص والكائنات من خارج الواقع، أو بإقحام هذا الواقع في السطوح الكتابية التي تبدو في الظاهر رقيقة وطفولية وعابرة، إنما ترمز من خلال هذا الاسلوب إلى مستويات عميقة من البؤس الذاتي والواقعي. بؤسُ الوعي وبؤس التعامل الذاتي مع هذا الوعي المتفتّح وبؤس محاولات الالتفاف عليه ومساءلته وإقحامه في تجارب تصوّرية أو كلاميّة لا تنجز، في أيّ حال، أجوبة بل تضع الأنا، مرارًا وتكرارًا، أمام نوع من العبث. عبث لا سبيل إلى التعاطي معه دون التحايل عليه باستثمار مكلة الخيال إلى حدها السحرانيّ الأقصى، ولربما يكون هذا الاستثمار، بحدّ ذاته، نوعا من أنواع المواجهة.

اقرأ/ي أيضًا:

سوزان عليوان.. خفوت النبرة وهاجس التعبير

ديانا حلبي.. عيون في جنازات جماعية