20-يناير-2018

فتحت حملة "Me_too" النقاس من جديد حول تعريف مفاهيم كالتحرش والقابلية الجنسية (نيويوركر)

يسطير نقاش عام في هذه الأيام على منصات الإعلام والصحافة العالمية، لا يبدو أنه أُخذ على محمل الجد عربيًا، حول حدود التحرش ومعنى "القبول الجنسي"، بعد ما تركته حملة "#Metoo" (أنا أيضًا) من صراع بين ضحايا التحرش، ومن يفترض في نفسه تمثيلهم من جمعيات نسوية أو حقوقية، وبين شخصيات عامة متهمة بالاعتداء الجنسي.

تجاوز تأثير حملة "#Me_too" الإطاحة بشخصيات عامة متهمة بالتحرش، ليفتح نقاشًا واسعًا حول مفاهيم كالتحرش والاعتداء والقابلية الجنسية

ويبدو أن تأثير الحملة المثيرة للجدل تجاوز الإطاحة بشخصيات عامة وسياسيين في عدة بلدان، وفتح المجال للنقاش من جديد في الفضاءات العامة حول تعريف مفاهيم كانت "مفهومة ضمنًا" في وقت ما، مثل التحرش والاعتداء والقابلية الجنسية.

اقرأ/ي أيضًا: "#Metoo" أنا أيضًا ضحية تحرش.. حكايات مؤلمة وواقع مرير

يعرف المهتمون بقضايا النسوية والجندر، أن هذا النقاش ليس جديدًا، وهو يرتبط بمدارس متباينة من النسوية، اختلفت حول قضايا عدة مثل التحرش والجنس العنيف وتشريع الدعارة. لكن الفرق أن "حروب الجنس" بين المدارس النسوية -وهو التعبير الذي سميت هذه الخلافات به- انتقلت في الفترة الأخيرة إلى حروب في الفضاء العام، ومنصات الرأي العام، سواء من خلال الإعلام التقليدي أو وسائل التواصل الاجتماعي. وبدا أن هذا الانتقال، عنى في إحدى أوجهه، حاجة لإعادة النقاش حول مفاهيم سائدة كثيرة.

يشغل السؤال الذي قد يبدو هامشيًا حول "المبادرة الجنسية"، الأوساط النسوية والإعلامية في العالم هذه الأيام. كيف تكون المبادرة الجنسية "شرعية" وكيف تكون تحرشًا؟ ما هو الحد بين هذين الوصفين؟ كيف يمكن أن تكون أي مجاملة بين سياسي وصحفية أو مدير وموظفة أو صديق وصديقته أو العكس، تحرشًا؟ وكيف يعرف المبادر إلى العملية الجنسية بأن الآخر أبدى قبوله؟

وتتدرج الأجوبة على هذه الأسئلة من المغالاة في الحذر، إلى درجة اشتراط أن يكون القبول لفظًا (في مشهد وكأنه طقس زواج ديني)، إلى المغالاة في الإعلاء من التحرر من هذه القيود، والمبالغة في الحديث عن "الحرية الجنسية"، إلى درجة يتم فيها تجاهل خطورة ما تتعرض له المرأة، نتيجة قلة المبالاة بفاعليتها وقرارها بالرفض أو القبول.

لقد شكك العديد من المنظرين في العلوم الاجتماعية، في العمومية الحقيقية للفضاء العام، أي في أن هذا الفضاء هو عام فعلًا. فإذا كان لا بد من انتقال أشكال اللامساواة والفروق في السلطة إلى هذا الفضاء، بشكل يخل في "أخلاق الخطاب" (Discourse Ethics) بمفهوم هابيرماس، فإن المشكلة الأساسية حسب منظرين نقديين، تتمثل بأن شرط الخوض في أي نقاش في هذا الفضاء، هو الاتفاق على قيم سائدة أصلًا.

شكك العديد من منظري العلوم الاجتماعية، في العمومية الحقيقية للفضاء العام، أي في أن هذا الفضاء هو عام بالفعل

بهذا المنطق فإن حرية التعبير لا تتضمن التشكيك في هذه القيم، ولن يدافع بطبيعة الحال أي أحد عن حريتك في التعبير عن مشاعرك النازية مثلًا أو المعادية للمرأة (إلا إذا صار العداء للمرأة قيمة سائدة). وتتجسد المشكلة في أن مفاهيم فضفاضة مثل التحرش، أو بالأحرى مناهضة التحرش، تصبح جزءًا أساسيًا من معايير أي حوار عمومي، ويتحول أحد تعريفاتها إلى قيمة من القيم السائدة المذكورة. بالضبط مثل أن يسيطر تعريف "محدد" لمعاداة السامية، فيصير أي نقد لأي مجموعة يهودية أو لإسرائيل، عداءً عرقيًا!

اقرأ/ي أيضًا: كازانوفا العربي الذي أصيب بالكبت

لقد تميزت الشهور الماضية بوصف أية مجموعة أو شخص ينتقد حملة "Me too" بأنه مناصر للتحرش أو معادٍ للمرأة. في المقابل فقد كانت تهم "المحافظة" والأرثوذكسية والعداء للحرية الجنسية، تلاحق القائمين على الحملة، وقد كانت حجة معظم منتقدي هذه الحملة أنها تعبر عن تعريف "محافظ" للتحرش، وأن النسوية التقليدية تهيمن على الفضاء العام، وطالبوا بأن يُعاد الاتفاق على معنى هذه المفاهيم بطريقة تراعي أنماط التواصل الجديدة في العالم.

على العموم، فإن هذا التجاذب الحاد والجامع، لم يُعالج عربيًا، ولم تهتم حتى وسائل الإعلام والصحف العربية به. لقد بدا وكأنه نقاش عن حرية جنسية لم نصلها. ففي مجتمع محافظ فيما يتعلق بالجنس، فإن الأسئلة عن تعريف القبول الجنسي غير ضرورية عند البعض، ولا تمس حياتنا اليومية. وكذلك فإن أي مجاملة جنسية مرفوضة سلفًا، والعملية الجنسية كلها خارج الزواج التقليدي غير مقبولة، حتى لو كانت توافقية، أما داخل الزواج التقليدي فحدودها واضحة. هذا صحيح في جزء منه طبعًا، لكنه مُحمّل في نفس الوقت بمغالطات كثيرة.

نحن بحاجة ماسة وبالتأكيد، إلى هذا النقاش، في مجتمعات تصل نسب التحرش فيها إلى الأعلى في العالم، حتى لو أزعجت هذه المعلومة حساسيتنا ما بعد الحداثية، أو رغباتنا في نقد الاستشراق.

ثمة تعامل مع هذه المفاهيم وكأنها مفهومة حتى قانونيًا، لكن أي تعريف واضح لها في القوانين أو في غير القوانين غير موجود. صحيح أن غياب الانفتاح باتجاه الجنس قد يقلل من أهمية الأسئلة عن طبيعة المبادرة الجنسية من جهة، لكنه في نفس الوقت، يعطي أهمية إضافية للسؤال عن معنى التحرش.

تتصدر جمل على غرار "يتمنعن وهن راغبات" السردية الذكورية حول الجنس في مجتمعاتنا، وكلما زاد المجتمع محافظة حول الجنس، قلت فاعلية المرأة، وزادت الافتراضات حول قصة المطاردة القديمة، التي يلاحق فيها رجل امرأة تتمنع عنه، ويزيدها، طبعًا، التمنع جاذبية. وفي مجتمع محافظ أكثر، تزيد الأسئلة عن السلوك السوي مع النساء في أماكن العمل أو التعليم، أو في السياسية والفن.

في التحرش تكون المرأة طرفًا كضحية، أما فيما يتعلق بالاعتداء على "الشرف" في مجتمعاتنا، فإن المعتدي والضحية، كلاهما رجل!

لا يوجد عندنا مدارس نسوية تقليدية واضحة (كما لا يوجد مدارس حديثة) تبالغ في تصنيف تصرفات "عادية" باعتبارها تحرشًا، هذا صحيح، لكن في المقابل، فإن الرجال وللمفارقة يفعلون ذلك. تلعب ثقافة "الشرف" هذا الدور بوضوح، فهي تعتبر أحيانًا، وحسب السياق الاجتماعي والطبقي، مجاملات عادية اعتداء على هذا "الشرف"، والحقيقة أن  ثمة فرقًا غير قليل بين معنى هذا الاعتداء ومعنى التحرش، فالمرأة حسب قضايا التحرش موجودة حتى لو كانت ضحية، أما فيما يتعلق بالاعتداء على شرف الآخرين، فإن "المجرم" هو رجل، كما أن "الضحية" هي رجل! على ما يبدو إذًا، ثمة ضرورة ماسة لفتح هذا النقاش، على الأقل، من أجل الوقوف ضد هذا المنطق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 #أول_محاولة_تحرش_كان_عمري.. شهادات مرعبة!

"الكلام حاشاكم".. حديث مفتوح عن الجنس في المغرب