28-مارس-2019

الروائية نغم حيدر

تدعو الكاتبة والروائية السورية نغم حيدر قرّاء روايتها "أعياد الشتاء" (هاشيت أنطوان – نوفل، 2018) وهي الثانية لها بعد "مُرّة" (2014)؛ إلى قراءةٍ متمهّلة، بطيئة، دون استعجالٍ لأحداثها القليلة من الأساس. ذلك أن بطلة العمل وشريكتها ليستا بالمستوى المطلوب ليجعلن من حكاياتهنّ قصصًا بأحداثٍ طويلة وكثيرة. فالتركيز هنا منصبُّ على كشف الجوانب المظلمة لهاتين الشخصيتين، وعقدهنّ وأزماتهن النفسية، والتوغّل عميقًا فيما يجول في خاطرهن.

يشعرُ قارئ "أعياد الشتاء" بأنّ التجوّل ليلًا كان نوعًا من الحل، والبحث عن زمن ضائع

تعيش شهيناز بطلة الرواية بين زمنين مُتباعدين ومُنفصلين، ولكلِّ زمن منهما أمزجتهُ الخاصّة، وأنماط سلوكٍ تختلفُ بين مكانٍ وآخر، تبعًا لاختلاف الزمن. وبالتالي، يصير من السهل للقارئ معرفة أنّ شهيناز الآن ليست شهيناز الأمس، أي في حياةٍ مضت وانتهت، ولكنّ البطلة ترفض فكرة كهذه بقوّة. يعرف كذلك أنّ هناك ما تغيّر في نمط وشكل حياتها، بصورةٍ وشكلٍ يكادان أن يوصلا الفتاة التي تجوبُ الشوارع ليلًا إلى الجنون.

اقرأ/ي أيضًا: نغم حيدر.. غزال يعدو في الساحة

نعرف في النهاية أنّ ما تغيّر هو مكانة شهيناز، صورتها بين اليوم والأمس، وتحوّلها غير المتوقّع من فتاةٍ مُغرية تنجحُ في إيقاع واحدٍ من أكثر ضبّاط النظام صلابةً وبطشًا في غرام جسدها، وتأخذ تتفنن بعد ذلك في إمتاعه بشكلٍ لا تقدر عليه أي امرأةٍ أخرى، إلى مجرّد لاجئةٍ عادية، تتشارك مع فتاةٍ أخرى السكن في مكانٍ ضيّق، وتنتظر الحصول على إقامةٍ لا تعني لها الكثير في الواقع.

يشعرُ قارئ "أعياد الشتاء" بأنّ التجوّل ليلًا كان نوعًا من الحل، وفرصةً لتتجنّب شهيناز مواجهة سيل ذكرياتِها بمُفردِها، في غرفةٍ ضيّقةٍ لا تتّسعُ لحزن المرء. ويُفسّر أيضًا نمط حياةٍ كهذا، وسلوكٍ شاذٍ بعض الشيء، كالذي تتبنّاه شهيناز، مثل نومها في النهار، وعيش حياتها ليلًا؛ سخريتها وبحثها المستمر عن سببٍ واحد لتسخر من الآخرين من خلاله بحدّة، كأنفٍ ضخم، أو عينًا حولاء، أو بشرةً بثراء، وحاجبين غير متناظرين، أذنًا مائلة قليلًا؛ يُفسَّر كلّ ذلك بإدراك شهيناز بأنّ لا قيمة لجسدها المغناج بعد الآن، أي منذ أنّ وصلت إلى هذه البلاد التي حوّلته إلى بضاعةٍ كاسدة، ولم يعد في المتناول إعادة اكتشافه من جديد، خارج إطار الزواج والعلاقات طويلة الأمد، أو تلك العابرة.

يعني كلّ ذلك، ببساطةٍ واختصارٍ شديدين، أنّ تجوّل شهيناز في الشوارع ليلًا، ليس إلّا نوعًا من البحث عن زمنٍ ضائع، أو فردوسٍ مفقود إن صحّ التعبير. ولا يتعدّى اعتباره مجرّد هروبٍ من فكرة خسارته، أي هذا الزمن أو الفردوس، لا فرق. نعرف هنا أنّ بطلتنا تختار الليل تحديدًا لتعيش حياتها فيه لأنّه لا يزال مسرحها المُحبَّب، مساحتها ومملكتها الخاصّة التي تألّقت وبرعت فيها بإغواء الضابط الذي نهش جلد جسدها بسوطه الذي أكل منه قطعًا على وقع غنجها على سريره، قبل أن يشرع الجسدان بالالتحام.

الليل إذًا هو ما يُتيح لبطلتنا شهيناز استعادة صورتها السابقة. تجوّلها في الشوارع، والتفاصيل الصغيرة والمُهملة التي تنشغل الكاتبة نغم حيدر في مُعاينتها، تقود قارئ العمل إلى نتيجة مفادها أنّ شهيناز تعيشُ عُزلاتٍ متعدّدة، أوّلها عزلة الجسد، وأشدّها قسوةً كذلك. بالإضافة إلى غربة من نوعٍ مُختلف، لا علاقة لها بالجغرافيا أو المسافات أو الحدود وتبدّل الأمكنة. لا تبدو شهيناز معنيةً بكلّ ذلك على الإطلاق. فالغربة عندها هو فقدان دورٍ برعت في لعبه. بالإضافة إلى فقدان صفاتٍ وامتيازاتٍ تمتّعت بها على سرير الضابط. فبطلة "أعياد الشتاء" تجد في صفة "عاهرة" مكانةً مهمّة من غير الممكن أن تُقارن بصفة "لاجئة"! فما بالك إن كانت عاهرةً في أحضان قُتيبة، ضابط الأمن؟

هكذا، تظهر شهيناز في العمل عالقةً في زمنين وحياتين، لا قدرة لها على التملّص منهما مهما فعلت وحاولت. الأولى مضت وانتهت، غير أنّها لا تزال تدور في رأسها، وتردّ لها اعتبارها في بلاد اللجوء حين تشعر بأنّه على المحك، بينها وبين نفسها. بينما الثانية لا تزال تعيشها، دون أن تنتظر منها أن تلتحق بالماضي، فالماضي مقدّس، ولا ترغب بأن تكون حياة رتيبة ومملّة كهذه جزءًا منه. تُحاول في الوقت نفسه تقليب حياتها بأكثر من طريقة، ولكنّ النتيجة ثابتة، لا تتغيّر. وبالتالي، ستظلّ عالقة في ماضٍ لا يمضي، وتراوحُ في حاضر يُراوحٍ مكانه بدوره، تتعايش أو تُحاول فعل ذلك مع مشهد تعذيب وتعنيف قتيبة لها بعد وفاة ابنه في كمين نصبته له قوّات المعارضة، متّهمًا شهيناز بأّنها هي من سرّبت موعد خروجه من المنزل، لتُغادر البلاد بعد ذلك.

شخصية شهيناز، في رواية "أعياد الشتاء"، متفرّدة بغرابتها وسلوكها الشاذ، وكذلك براعتها الشديدة في التقاط وتصيّد هفوات الآخرين

اشتغلت نغم حيدر على جعل شخصية شهيناز متفرّدة بغرابتها وسلوكها الشاذ، وكذلك براعتها الشديدة في التقاط وتصيّد هفوات الآخرين. لهذا السبب، وضعت الكاتبة السورية المقيمة في ألمانيا إلى جانب شهيناز شخصية تقف على النقيض منها تمامًا، أي شريكتها بالسكن، راوية. فهذه الفتاة التي تُعاني من عقدة صغر حجم ثدييها، تُعزّز من فردية وغرابة بطلة العمل، ذلك أنّها تعيش حياتها ككلّ البشر، دون وجود ما يجمعها بشهيناز غير الغرفة الصغيرة. تعمل نهارًا، وتنام ليلًا، عكس شريكتها. ناهيك عن افتقادها الثقة بنفسها بفعل حجم ثدييها، وقناعتها بأنّ لا أحد يحبّها، ولا تحبّ أحد أيضًا. بذلك، تبدو راوية إنسانة منزوية ومكتفية بمراقبة الحياة الصغيرة والرتيبة التي تدور حولها دون توقّف، ومن دون أي محاولةٍ للانخراط فيها، مُبتعدةً عن كلّ ما هو اجتماعي وصاخب.

اقرأ/ي أيضًا: مرتضى كزار في "العلموي".. قصة عن غابة من النفط والكلمات

تشتغل نغم حيدر في عملها الروائي الثاني على كتابة ندوب الحرب، لا الحرب ذاتها. فشهيناز في هذه البلاد لأنّ قتيبة، ضابط الأمن، أراد لها ذلك. والضابط من دون شك جزء من الحرب، بل في صف المسؤولين عنها أيضًا. وراوية في البلاد نفسها لأنّ الحرب أرادت لها ذلك، بعد أن خطف رجال الأمن والدها، واتكاء وأمّها وأخويها الصغيرين عليها في إعالتهما وتأمين ما يجعلهم قادرين على متابعة الحياة في سورية. وبذلك، إنها رواية الجروح العصية على الاندمال.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:​

قاسم مرواني: نحن كائنات متناقضة ومعقّدة إلى حدٍّ كبير

مكتبة فرانك بايس