23-يوليو-2020

نعوم تشومسكي (رويترز)

مع كل ما يعرفه العالم اليوم من جائحة، وما تعرفه أمريكا من حصيلة ثقيلة جراء الوباء، إضافة إلى ما انطلق من شوارع ذات البلاد من احتجاجات، وانتقلت لتلهب شوارع العالم بأسره على حد سواء، مناهضة للعنصرية والتمييز العرقي، فإن أصواتًا مثل صوت نعوم تشومسكي، رائد اللغويات والمفكر الماركسي المعروف، كانت منتظرة. أدناه الترجمة الكاملة لنص مقابلة أجرتها معه مجلّة جاكوبين الأمريكية.


  • ما هو أول ما خطر على ذهنك وأنت تتابع الحركة الاحتجاجية التي انفجرت بعد مقتل جورج فلويد وبريونا تايلور على يد الشرطة؟

أول شيء لفت انتباهي كان ذلك التصاعد غير المسبوق للمشاركة، الدعم والتعبئة، لهذه الحركة. فإذا ما عدنا للاحصاءات، سواء بالنسبة لحركة Black Lives Matter أو المتظاهرين في عمومهم، سنجد أرقامًا هائلة، تعدت  جماهير مارتن لوثر كينغ في قمة شعبيته، وفاقت كل المحتجين على أحداث القتل البوليسي السابقة.

نعوم تشومسكي: الاحتجاجات الأمريكية اليوم لا تناهض القتل البوليسي فقط، مع أن ذلك مثل شرارة انطلاقها، بل تقاوم جذريًا كل الأسباب التي أدت لوقوع أحداث كتلك

يمكنني تشبيه ما يقع الآن، بأحداث لوس أنجلس 1991، التي كانت ردة فعل على تعنيف الشرطة لرودني كينغ، بطبيعة الحال أطلقت المحكمة سراح كل الجناة، فاجتاحت ولاية كاليفورنا احتجاجات راح ضحيتها 60 قتيلًا، وتم استدعاء القوات الفيديرالية للسيطرة على الوضع. الاختلاف الوحيد هو أن الأحداث الآن تجتاح كل البلاد، وأنها لا تناهض القتل البوليسي فقط، مع أن ذلك مثل شرارة انطلاقها، بل تقاوم جذريًا كل الأسباب التي أدت لوقوع أحداث كتلك، منددين ومحسسين بها من خلال معركة نضالية، امتداد لـ 400 سنة من المقاومة يخوضها الانسان الأسمر  في وجه عذاباته.

اقرأ/ي أيضًا: أن تتعرف على جورج فلويد من فلسطين

  • في نظرك، ما علة الطابع غير المسبوق لهذه الاحتجاجات؟

أظن أن ذلك مرده لسنوات من النضال الشاق. وعلى سبيل المثال، السنة الماضية، سلطت جريدة نيويورك تايمز الضوء عبر سلسلة مقالات مهمة، عنونت بـ "1619"، على تاريخ العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية – دلالة العنوان تعود لذات السنة، 1619، باعتبارها السنة التي أخذ فيها استجلاب العبيد الأفارقة انتشارًا مهمًا في  البلاد. هذه السلسلة لم نكن لنتخيل نشرها خلال السنوات  القليلة الماضية. وهذه إشارة من بين عدة آمل أن تحدث تغييرًا حقيقيًا، والفضل فيها يعود إلى مجمعات كـ Black Lives Matter وغيرها من الذين ناضلوا لشد انتباه الرأي العام لهذه المعضلة ودفع الشعب أكثر فأكثر للتفكير فيها. ورد الفعل الذي نشهده الآن مهم للغاية، ومغاير تمامًا عما مضى.

  • تعددت ردات الفعل حولها بشكل صارخ، بالمقابل تبيان حقيقتها ظل مشوبًا باختلاف وجهات النظر حول التغطيات الإعلامية لها، والتعتيم الإعلامي والتهويل الذي طرأ، مما يوجب الحذر  في التطرق إليها. كشخص له تاريخ داخل التقليد الأناركي، ما رأيك في "منطقة الإدارة الذاتية" التي أقيمت في سياتل؟

في نظري، هي واحدة من تغييرات مهمة بتنا نشهدها داخل المجتمع الأمريكي، جزء منها يعود لتأثير الجائحة، والآخر لردة الفعل إزاء حادثة قتل جورج فلويد. الحاجة إلى نظام للدعم المشترك والتعاون يخرج الناس من قبضة مؤسسات الدولة التي أبانت فشلها في الاستجابة لكثير من المشاكل الواقعة، كتأمين الماء للشعب، والعديد من المشاكل البنيوية التي جعلتنا غير مجهزين لمواجهة الجائحة. منطقة الإدارة الذاتية نتاج مهم لكل هذا.

كذلك الضغط لانتزاع الدعم من عمدة مدينة سياتل، وشخصيات أخرى ذات شعبية كبيرة، كما التعاطف الجماهيري الواسع مع خطوة إعلان منطقة الإدارة الذاتية. كل هذا يدفع ترامب وقناة فوكس نيوز إلى الجنون، وهذا أمرٌ مهم وإيجابي جدًا. أظن أنه شكل احتجاجي مهم حتى من ناحية تملك الارادة الذاتية للشعب بيد الشعب وبشكل مباشر، رعاية حياتهم وعدم تركهم تحت رحمة السلطات التي تعلن نفسها سيدة على الجماهير.

  • هل صعود هذه المطالبات بالعدالة والمساواة في حد ذاتها مكسب، دونما إخضاع حركاتها لمعيار النجاح أو الفشل؟

النجاح والفشل أمران في غاية التعقيد. كل نضال جدي يعرف لحظات تراجع. فعندما تتوقف الأمور عن التطور في المنحى المنتظر لها، تتوقف قليلًا بدورك، ثم تتابع مسارك. هكذا حدث بالنسبة لكل الحركات: حركات الحقوق المدنية، النسوية... كلها. إنها سيرورة الأشياء.

خذ عندك حملة بيرني ساندرز. لقد تلقيت رسائل عديدة بصددها، وقرأت منشورات كثيرة، كلها تقول: "لقد حاولنا وفشلنا، لهذا نحن ننسحب!". لكن لم يكن هناك فشل بالأساس، ما حصل خلال الحملة هو نجاح مبهر وغير مسبوق. لم يحدث من قبل في كل التاريخ السياسي الأمريكي - كي أكون دقيقًا منذ الحركة الشعبية الردكالية للفلاحين والتي تمّ قمعها بالقوة - مثل هذا التحول التام للنقاش السياسي. عادت إلى مركز المشهد السياسي أمور كانت قبل أمد قريبٍ متجاهلة: الصحة العمومية كمطلب مهم زادت الجائحة الأخيرة من أهميته، الصفقة الخضراء الجديدة ( The Green New Deal)  كنتيجة نضال كبير لمجموعة صغيرة من النواب التقدميين بالكونغرس، وفي الخلفية نجاح بيرني ساندرز والثلة المذكورة من النواب التي دعمت كلّ هذه القضايا.

الانسحاب التكتيكي الذي قام به ساندرز، والذي عاتبه عليه البعض، فيما أرى فيه اختيارًا صحيحًا، لاختراق حملة بايدن ودفعها نحو اليسار. والحقيقة، أن ساندرز وشركاءه يشتغلون الآن لتنظيم لجان حملة بايدن، وبنظرة على البرنامج المطروح نجد أنه أكثر برنامج يساري قدّم منذ حقبة فيودور روزفلت. ويقدم عددًا كبيرًا من الفرص.

كل هذا لم يحدث مصادفة، بل على شاكلة الصفقة الخضراء الجديدة، عبر الضغط والنضال المستمرين. هكذا وجب على اليسار أن يستوعب المحطة الانتخابية، ليس التصويت على مرشح معين هو ما يهم، بل النضال المستمر الذي يسمح لك بإعادة ترتيب أوراق خياراتك، أولوياتك، وسياساتك. فالنجاح لا يأتي هكذا بفرقعة اصبع. هناك أشياء تحقق، وأخرى لا، تتوقف ثم تستمر في النضال.

  • أود أن أسألك عن مسألة حرية التعبير. التي عاد ملحوظًا غيابها بين الكثير من اليساريين. بالنسبة لك، كيف تقاربُ هذه المسألة؟ 

أولًا، أعتقد أن علينا العودة قليلًا إلى التاريخ. ما الذي يجعل مسألة حرية التعبير مطروحة الآن؟ وهل هذا شيء جديد؟ لا، هي مسألة حاضرة بشكل مستمر ومنذ عقود، لكنها دائمًا كانت تهمّ اليسار، لهذا لم يكن يعرها أحد غيرهم الاهتمام. تعرض اليسار لأشكال عديدة من قمع حرية التعبير، أكثر عنفًا مما يقع الآن: تفكيك اجتماعات بالقوة والعنف، إلغاء محاضرات، إتلاف كتب.. فعلى سبيل المثال خلال السبعينات، عندما نشرنا صناعة الإذعان، أنا وهرمان إد، طبع منه حوالي 20 ألف نسخة، ونُشر عند دار تابعة لإحدى الشركات الكبرى. عندما علم أحد رجال تلك الشركة بالكتاب أصابه رعب كبير، وطلب من الناشر سحبه من المكتبات. عندما رفض الناشر ذلك تم سحقه، وتدمير كل مخزونه لمنع توزيع الكتاب.

هل اهتم أحد بالقضية آنذاك؟ وبدافع الفضول، ذكرت الأمر لعدد من النشطاء التحرريين، مثل نات هينتوف والاتحاد الأمريكي للحريات المدنية، لم يروا في ذلك أي إشكال. على أساس أن تدمير ناشر وإتلاف كل مخزونه من الكتب لمنع كتاب واحد من التوزيع ليس قضية قمع هدفها تكريس الرقابة.

ولم تكن تلك المرة الوحيدة، بل في مرات عديدة سحبت كتبي من النشر، وطولبت بإرجاع المقدمات التي سلمنيها الناشرون، متعللين بأنها تتضمن بعض المواقف السياسية التي لم ترق لهم. كما حدث أن طرد العديد من الجامعة لمواقفهم السياسية، وألغي العديد من وظائف التدريس لذات السبب. دون أي اهتمام للأمر. لم تكن رقابة، بل استهدافًا مباشرًا لليسار، وبشكل أكثرَ فضاعة مما يجري حاليًا.

من الاحتجاجات ضد اغتيال جورج فلويد (Getty)

لكن هذا لا يبرر ما يجري الآن. أولًا، لا يمكن أن أقول بأن اليسار هو من يمارس ذلك القمع لحرية التعبير، نيويورك تايمز سحبت مقال رأي، ولا يجب عليهم فعل ذلك، لكن من الصعب القول بأن ذلك فعل يساري.

عندما يقرر الكثير من الشباب إنزال محاضر (يعارضون أفكاره) عن المنصة، في نظري هذا خطأ كبير، بل وخطأ حتى على المستوى التكتيكي النضالي. هناك طرق أفضل للتعامل مع ذلك، مثلًا إقامة محاضرة مضادة لتوضيح ما يقع ويمكنك أيضًا استغلالها لأهداف توعوية بقضيتك. أظن أن ذلك خطأ، تكتيكيًا خطأ. وهي فرصة مهداة لليمين المتطرف، وهم يحبون هكذا فرص.

  • من أكثر نضالاتك التي أحببتها، كانت تلك التي دافعت فيها عن الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا عندما كان معتقلًا، بل وذهبت لزيارته في معتقله بكوريبيتا. ما الذي يجعلك تظن أن لولا دا سيلفا زعيم سياسي بهذه الأهمية؟

ينحدر الرئيس لولا من الطبقة العاملة، وكان ناشطًا مدافعًا على حقوقها: أيام الديكتاتورية، نجح في أن ينظم معارضة جيدة، وبعدها ترشّح للرئاسة. سرقت منه الرئاسة في أكثر من مرة، ومع ذلك فاز بها وبدأ بناء العهد الجديد للبرازيل.

دعك من شهادتي، خذ مثلًا شهادة البنك الدولي؛ سنة 2016، في نهاية ولايته، نشروا دراسة مطولة عن التاريخ الحديث لاقتصاد البرازيل. سموا فترة رئاسة لولا بـ "العقد الذهبي" للاقتصاد البرازيلي. لقد تراجع الفقر بشكل هائل، تزايد ضحم في الإدماج الاقتصادي لشرائح واسعة من الشعب، بمن فيهم السود الذين كانوا مهمشين للغاية. لقد طبق سياسات مكنت الناس من تملك مصائرهم، ونجح في ذلك بشكل مبهر.

لقد جعل البرازيل تحوز احترام المجتمع الدولي كلّه، إن لم أقل جعلها أكثر دولة محترمة. شاهد ما وصلت إليه الآن، منبوذة تمامًا، وأكثر دولة يتم السخرية منها بين دول العالم بأسره.

كان هناك عدد من المشاكل أثناء فترة لولا. واحدة منها هي تسامحه مع الفساد، وعدم اكتراثه به. وكان هناك الكثير من الفساد في حزب العمال البرازيلي، كما هو متوطن في البرازيل وفي المنطقة بأسرها. لكن الواقع هو أن إدارة لولا فشلت في أن تفهم الناس بأنهم شريك في النظام الذي أخذَ في التطور، وبالتالي، الغريب هو، إن سألت أكثر الناس التي استفادت من برامج تلك الإدارة: "من أين أتتكم كل هذه المكاسب؟" يردون:" من عند الله!" وكأن كلّ هذا جاء مصادفة، هم لا يعرفون أنه كان جانبًا من برنامج حزب العمال. لقد كان ذلك فشلًا ذريعًا. وهناك أشياء أخرى يمكن انتقادها في فترة لولا. لكن وسمها كـ "عقد ذهبي" كان صحيحًا في نظري، كما حيازة البلاد ذلك القدر من الاحترام الدولي، كصوت لدول الجنوب في مقابل الشمال، كل هذا كان مهمًا جدًا وجزءًا مما تعرضت له من اندحار. فالأنظمة السياسية لا تحب التجارب الصاعدة. ولا ترغب في أن تحقق دول الجنوب كل ذلك النجاح.

النخبة البرازيلية عنصرية جدًا ولها وعي طبقي صلب. وها هو شخص من خلفية عمالية، لا يتكلّم حتى اللغة البرتغالية "اللائقة" بطلاقة، ولم يتلق تعليمه بالمدارس "المناسبة"، موقعه الطبيعي هو أن يكون متواضعًا وشاكرًا لما نتصدّق عليه به، لا في القيادة، يسطر السياسات. عندما تتحدث إليهم، تحس هذا الإحساس بالمرارة والغضب في حديثهم، لهذه الأسباب الطبقية بالضبط، أكثر من رفض سياساته.

سنتان بعد أن غادرَ لولا الرئاسة، انقلاب ناعم شنّ ضد خليفته ديلما روسيف. هذا ما انتهى إلى انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2018. لولا أنه سجن، فلقد كان المرشّح الأكثر قابلية للفوز، سجن بتهم ملفّقة، وتمّ إخراسه، كأنه سفاح أو قاتل متسلسل منع من الكلام. وهذا كان مهمًا للغاية، أنه حافظ على صمته طوال الحملة الانتخابية. الآن هو في سراح مشروط، لأن السجن كان هدفه إبعاده عن المعركة الانتخابية، التي صعدَ منها اليميني المتطرّف جايير بولسونارو مدمّرًا أرضًا تدعى البرازيل، والبلاد الآن على حافة انقلاب عسكري.

لا أعلم إذا ما تابعت مقطع الفيديو، قبلَ أيام، حيث تظهر عصابات بولسونارو تهاجم مبنى البرلمان والمحكمة العليا، هاتفة: "لنتخلص منها!". بولسونارو أخذَ في إقالة قادة القطاعات الحكومية التي كانت تراقب أفراد عائلته، والجواب الذي قاله: "لن يعبثَ أحد بعدها بأفراد عائلتي!". هذا يشبه كثيرًا ما يقع عندنا (بالولايات المتحدة)، وبلسونارو يرى نفسه نسخة عن دونالد ترامب. إنها لمهزلة حقيقة ومأساة.

هناك شبه كبير بينه وبين ترامب. ترامب الذي أقال منذ أيام كل المحققين العامين، الذين كانوا يبحثون في شبهات فساد داخل إدارته. كانوا بدأوا يعثرون على معطيات حول المستنقع النتن الذي حفره ترامب بواشنطن، وفجأة أقالهم كلّهم. وكأي دكتاتور حقير، خرج من ذلك المأزق بصب جام إهانته على السيناتور الديموقراطي شارلز غراسلي، الذي قضى جلّ حياته المهنية على رأس جهاز التحقيق ذاك. ولا ردة فعل تذكر من الجمهوريين، أو حزبهم الذي اختفى تحت إشعاع ترامب. وأصبح أسوء من الأحزاب الشيوعية القديمة؛ الزعيم يعطي أوامره، والحزب كله يركع على ركبتيه.

  • هل يمكنك أن تفصّل لنا لماذا ما يفعله ترامب بشكل مؤسسي الآن فريد من نوعه ومهم في ذات الوقت؟

قد يبدو هذا قويًا، لكنا الحقيقة: ترامب هو أسوأ مجرم في التاريخ، وهذا لا يمكن إنكاره. لم يكن هناك في التاريخ وجه أكثرُ إصرارًا منه على تدمير كل مشاريع تنظيم الحياة الإنسانية في المستقبل القريب.

ليست مبالغة. تركيز الناس الآن مع الاحتجاجات، والجائحة لن نخرج منها إلا بخسائر هائلة. وستتضاعف هذه الخسائر بيد العصابات المتوطنة بالبيت الأبيض، ذات اليدين الملطخة الآن بدماء عشرات الآلاف من الأمريكيين، وتجعل من البلاد أسوأ بقعة يمكن العيش فيها. سننجو حتمًا من هذه الجائحة، لكن لن ننجو من جريمة أخرى يقترفها ترامب: ارتفاع درجة حرارة الكوكب. لن ننجو من ذلك.

المفكر وعالم اللغويات الأمريكي نعوم تشومسكي (Getty)

الجليد الذي ينصهر الآن، لن يعودَ جليدًا بعد ذلك. ما سيؤدي إلى ارتفاع اطرادي في حرارة الكوكب. القارة المتجمدة، على سبيل المثال، يمكن أن تغرق العالم. هناك دراسات متأخرة تتحدث عن نطاق زمني من خمسين سنة إلى الأمام ستصبح مساحات شاسعة من الأراضي غير قابلة للعيش فيها. لن يمكن للإنسان العيش في قطع من جنوب آسيا، من الشرق الأوسط، أو الولايات المتحدة. نحن نقترب إلى الحالة التي كانت عليها الأرض من 125 ألف سنة، عندما كان مستوى البحر أعلى بخمسة وعشرين قدم مما هو عليه الآن. والأسوأ من ذلك، أن مؤسسة سكريبس للدرسات البحرية أصدرت مؤخرًا دراسة، تقول فيها أننا أقرب من الحالة التي كانت عليها الأرض من ثلاث ملايين سنة، أي بارتفاع مستوى البحر بأكثر من 50 إلى 80 قدم مما هو عليه اليوم.

نعوم تشومسكي: ترامب هو أسوأ مجرم في التاريخ، وهذا لا يمكن إنكاره. لم يكن هناك في التاريخ وجه أكثرُ إصرارًا منه على تدمير كل مشاريع تنظيم الحياة الإنسانية في المستقبل القريب

حول العالم، كل البلدان تحاولُ فعل شيء ما إزاء هذا الوضع. إلا بلد واحد، ذلك الذي يقوده رئيس يريد أن يصعد انتقاداته، أن يسارع نحو الهاوية، أن يرفعَ استهلاك الوقود الأحفوري بشكل أكثره خطرًا، وأن يفكك كل المعاهدات والأجهزة الحكومية التي تنظم هذا الاستهلاك وتعمل للحد منه. ليس هناك جرمٌ أكثر فضاعة من هذا طوال التاريخ البشري. وليس لأنه لا يعلم بكل هذه الأخطار، بالعكس، لأنه يعلم جيدًا ولا يعير لها اهتمامًا. بالنسبة له، ما يهم هو ضخ مزيد من الأموال في جيوب الشركات الكبرى، وإن كان ذلك على حساب انقراض البشرية بعد جيل أو جيلين.

في ما يخص الحكومة، نحن نعيش أمورًا في غاية الأهمية. يعود تأسيس الديمقراطية البرلمانية إلى بريطانيا 1689 بفضل الثورة المجيدة، عندما انتقلَ الحكم من العرش الملكي إلى البرلمان. بداية الديموقراطية البرلمانية في الولايات المتحدة أتت بعد ذلك بحوالي قرن من الزمن. وهي ليست فقط قاعدة قوانين ودساتير لتداول السلطة. بل في الحقيقة، اقتصار الدستور البريطاني على دزينة كلمات، يحيل إلى أن الديمقراطية قائمة على الثقة والنيّة الصادقة في الشعب، وفي تصرفاتهم كبشر.

خذ على سبيل المثال ريتشارد نيكسون، صحيح أنه سياسي فاسد، لكن عندما وجب عليه أن يغادر الكرسي غادره بصمت. لا أحد ينتظر حصول نفس الشيء مع ترامب، لأنه لا يتصرف كإنسان. لا يحترمُ مواعيده، ولا ينسق حتى مع مجلس الشيوخ في قراراته. لا يهتم لأحد، إذا لم يعجبه شخص ما، يرميه خارج المنظومة. مرة تجرأت أحد المنتميات للحزب جمهوري، ليزا موركوفسكي، على طرح سؤال حول مصداقية الرئيس، حتى صبّ عليها جامّ هجماته متوعدًا إيّاها: سأدمرك!

هذه ليست فاشية، بل كما سبق وقلت: دكتاتور هش في بلد صغير، حيث هناك انقلاب كل سنتين. تلك هي عقلية ترامب.

الكونغرس، مجلس الشيوخ، على ما يبدو، كلّها سقطت في يد توأم روح الرئيس: ميتش ماكونلي، صاحب المخططات الشريرة لتدمير الديموقراطية حتى من قبل اعتلاء ترامب الرئاسة. فعندما كان باراك أوباما رئيسًا، ماكونلي قالها بصراحة: "هدفي الأساسي هو أن أفشل كل مشاريع أوباما". هذا بمثابة القول بأن "هدفي الأساسي هو تدمير الديمقراطية البرلمانية"، والتي تعتمد، كما قلت، بشكل رئيسي على الثقة المتبادلة بين الشعب والمؤسسات.

مجلس الشيوخ، والذي يعد أكبر مؤسسة تشريعية، قزّمت وظيفته إلى الموافقة على القوانين التي تزيد الأثرياء ثراءً، التي تقوي سطوة الشركات الكبرى، وتحقن المنظومة القضائية بقضاة شباب من اليمين المتطرف، أغلبهم يفتقد للكفاءة والقدرة على تطبيق عدالة قوية. إذًا، هي كراهية ورهاب عميقين من الديموقراطية تلك التي أتت بها إدارة ترامب. وهذا ما لم نعهده لدى النخبة الأمريكية؛ يبغضون الديمقراطية لأسباب واضحة، لكن ما يقع الآن أمرٌ آخر.

ضف هذا على الجائحة الوبائية، الاحتباس الحراري، وأزمة الأسلحة النووية التي لا تقلّ خطرًا عن المشكلين السابقين. ترامب يحاول تفكيك المنظومة العالمية لضبط السلاح النووي، رافعًا مستوى تهديد خطر الدمار، مشجعًا الأنظمة العدوة على تطوير أسلحة نووية بدورها لتدميرنا.

ترامب يمثل السمات الأسوء للرأسمالية، بالأخص في نسختها النيوليبرالية، مضخّمة. لنأخذ مثلًا الجائحة الوبائية. لماذا وقعت الجائحة؟ في سنة 2003، وبعدة عدوى السارس، والذي كان هو الآخر فايروسًا من فصيلة كورونا، وكان لدى العلماء معرفة جيدة به حين حذّروا من قدوم فيروس مشابه، أكثر خطورة، وحددوا له منذ ذلك الحين خطوات التعامل معه. كان يجب القيام بهذه الخطوات. عندنا صناعة دوائية ضخمة، فاحشة الثراء، بالنسبة لها أن صرف المال على خطر آت بعد عشر سنوات ليس أمرًا مربحًا. إذًا، هي أزمة رأسمالية.

الحكومة، هي الأخرى، كانت تمتلك وسائل كبيرة؛ مختبرات كبيرة ومجهزة بشكل متطور. إلى أن أتى رونالد ريغن بأول الهجومات النيوليبرالية على مكتسبات الشعب، مجادلًا بأن الدولة هي المشكل وليس الحل: بمعنى أن القرار يجب أن يؤخذ خارج الحكومة. لأنها تحت سيطرة الشعب، بالتالي فالقرار عندنا الآن في أيدي ما لا يحصى من المؤسسات الربحية الخاصة. وكان ذلك أول  الاجتياح النيوليبرالي الكبير.

في عهد جورج بوش الأب تم تأسيس المجلس العلمي الرئاسي. ذات المجلس الذي كلّفه أوباما بإعداد نظام استشعار واستباق أي خطر وبائي محدق، أسبوعين بعدها فعّل ذلك النظام على أرض الواقع. في سنة 2017، ومع أول دخوله البيت الأبيض، حلّ ترامب النظام المذكور، بداية من قطع الدعم الحكومي على مركز المراقبة والوقاية من الأمراض كما كل المؤسسات الصحية الحكومية أو شبه الحكومية. وفي وقت تم إيقاف منظومة العلماء الأمريكيين، اعتمدت الصين بشكل كلي على علمائها في مواجهة فيروس كورونا. وبالتالي سياسات ترامب تتحمل كل مسؤولية عدم استعدادنا لمواجهة الجائحة.

اقرأ/ي أيضًا: نعوم تشومسكي: إسرائيل رأس حربةِ قتل الديمقراطية

بل وزاد الأمر سوءًا، عندما رفض أخذ أي تدابير إزاء هذا الوضع كباقي دول العالم التي تحركت بسرعة واستطاعت السيطرة عليه. ترامب لم يهتم بكلّ هذا، ولأشهر ظلّت المخابرات الأمريكية تحاول حمل البيت الأبيض للقول بـ"أننا نواجه أزمة ضخمة"،  ولم تجد مجيبًا. بعد وقت طويل، عندما أيقن بأن البورصة تنهار، قرر التحرك لكن كل ما قام به كان مجرد فوضى.

نعوم تشومسكي: جرائم ترامب تدمر الديموقراطية الأمريكية، وتتحمل مسؤولية الحصيلة الثقيلة من الأرواح التي راحت ضحية الجائحة

فيما يظل جزء كبير من المشكلة منتميًا إلى مرحلة ما قبل ترامب. لماذا لم تكن المستشفيات جاهزة؟ ببساطة لأنها مؤسسات تجارية ربحية. هذه هي النيوليبرالية. تحرص على أن تتحين الفرص في آخر لحظة، بلا خسارة ولا سنت لاستباق الكارثة: ليس عندهم أسرة إضافية في المستشفيات ولا يريدون الاستثمار في ذلك، لكن في المقابل يمنح مدراؤهم التنفيذيون تعويضات بملايين الدولارات. فلماذا لا يقتص من تلك التعويضات من أجل إضافة الأسرة؟ دور العجزة، والتي بدورها مخوصصة، تقلص طاقتها الاستيعابية إلى أدنى المستويات، لتكسب من خلال ندرة العرض وارتفاع الطلب على خدماتها أموالًا أكثر. هؤلاء هم الذين يدعمون ماليًا حملة ترامب، يأخذون صورًا معه، ويباركَ الرئيس عمليّة تدمير هذه الخدمة الاجتماعية والقتل الممنهج للمسنين.

كل هذه مشاكل عميقة جدًا وتغلغلت سنوات قبلَ ترامب، لكن الرئيس الحالي بدوره حالة فريدة، أعيدها مرة أخرى: هو أسوأ مجرم عرفه التاريخ البشري، جرائمه تدمر الديموقراطية الأمريكية، وتتحمل مسؤولية الحصيلة الثقيلة من الأرواح التي راحت ضحية الجائحة. بالمقابل يغرق في نكرانه أن ما قام به هو جريمة في حق البشرية.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حوار| جيمس سكوت: هناك دائمًا ما هو تحت رادار السلطة