12-مارس-2018

فريال الأعظمي/ العراق

لقد حاصرتني اعترافاتي التالية مطولًا، فلم أجد منها مهربًا ولا تخيلتُ لها مآلًا آخر، صارت عبئًا وقد آن لها أن تُرمى بعيدًا كيفما كانت تداعياتها، هكذا دون تحرير: أقفُ أمام المرآة، أتفحص بعينين قَلقَتين وجهي الذي كَبُر فجأة، بعض الخطوط صارت أوضح، وهذه العيون صار امتدادها أبعد، الفم الباسم يرتجف أمام السؤال الذي لا زال بعد أربعة عقود يطاردني: من أنا؟

في إحدى زوايا الغرفة، جسد ممدد بلا حِراك، هذه زوجتي أيها السادة الكرام أو لنقل قرينتي. قد ركلتُ اليوم بطنها مرات ومرات حتى خارت، العجيب أنها لم تصرخ أو تقاوم كما لم أتوقف لحظة. أقف هنا، بعد الفعل الذي ستُجرّمونه بطبيعة الحال، وسأعتبره خلاصًا وجزاءً مُنصفًا لامرأة كانت تستهوي الجلوس على كنبتها الموردة الأثيرة، مُستندة إلى الوسائد الكبيرة، وهي تلبس فستانًا قطنيًا حاسرًا بعض الشيء، تضع أحمر شفاهها الوحيد الفاقع، تنفث سيجارتها ذات الرائحة النتنة، تحاول تمضية الساعات الثقال على قلبها كما كانت تصفها، باتهامها لي بالفشل والجُبن الذي دمر حياتها الواعدة.

كم هزأ مني هذا اللسان الثرثار القذِع، وكم صار لصاحبته وجهًا باردًا مقيتًا يشبه المسخ الذي يلاحقني في كوابيسي. على أية حال، كنت قد قررتُ الليلة إذ ما مارست بغائها الفموي تجاهي، بأن أُطبق فكيّها على بعضهما أبداً، وها قد فعلت.

خلعتُ عني قميصي، أتخفف من وطيس الليلة المجنونة، أتلمس النسيم البارد، كان رأسي مُطأطأً تدور فيه الحكايا والمشاهد والأفكار: ضحكة القتيلة- حبيبتي سابقًا، هدير سخان الماء، صوت حمامة، موسيقى صاخبة، تسابيح وأذكار، نبضات قلبي (117، 124، 128، أقل، أكثر)، سيجارتي الأخيرة، صوت يصرخ بكل المرح الذي في الدنيا: أحبّك، طلاء أظافر بوردو، فيلم إيراني، موسيقى شرقية، الصوت هذه المرة يهمس في أذني: أحبك، سعادة، خواء، وحدة، الصوت ذاته يصرخ في وجهي: يا فاشل! أنامل تتلمس طريقها إلى شعري الفاحم مُعتذرة فأُبعِدُها، أصوات أطفال يلعبون، بالونة العيد، رواية الناسك لتولستوي، البرد يقضم أصابعي، كأس اليانسون الساخن يدفئني؛ يا إلهي! أصرخ: كفى، كفى. فلتكفي أيتها الصور، فلتذهبي إلى الجحيم، الآن.

أطرد كل ما زحف إلى عقلي، أتدارك نفسي، أنظر إلى المرآة فأقف مشدوهًا؛ كانت تكسوني الصفحات البيضاء، كأنما نبتت من ساق شجرة ما: الساق أنا والصفحات أنا أيضًا. الغريب انني كلما مزقتُ واحدة، نبتت أُخريات، ولدى نقطة ما، صارت الصفحات تبقع بالأزرق، هالني الأمر وأرعبني، وكمّن مسه جان فتأتُ أبحث عن مصدرها، فإذ بأصبعي يسيل حبرًا أزرق، يُطلق عليه في علم الحدث بأنه القدر.

من أنا؟

وقفَ صاحب هذا السؤال مرة أمام صبية حلوة، في فصل من فصول حكاية ما، تراوده عن منطقه فإذ بها تسكب في قلبه كلامًا حلوًا، ولأنه صار يعدو بعدها كالعاشق المجنون في غابات عمرها، أوصلته إلى جرف ما، دعته إليه، تردد، وقف طويلًا ثم وثبّ وهو يُعلمها درساً في الرجولة والثقة، أما جناحيه فكانا صورته في عينيها، غبشت الرؤية، ولاح ضبابٌ من حيث لا يدري، سقط! كاد الموت أن يظفر به، إلا أن رؤية ما انتشلته منه، وبعُسر أخبر يقول "أنه في وقت العصر، اسـ، است... سيدة بشعر، شائب، لا لا.. عجوز سبعينية، أووه يا إلهي" ولِكُثر ما تلعثم، انفضّ عنه الجمع.

لا زالت الصفحات تنبتُ مِن وعلى جسدي، كأنني صرتُ فجأة أنتمي إلى صنف القشوريات وفي حالتي هذه الورقيات، ولا زال جسد قرينتي مُمددًا بانكسار وبارتياح. أشعر بأنني فعلت خيرًا لكلينا. كان لا بد أن يموت أحدنا ليعيش الآخر، وكنتُ بالطبع هذا الآخر الذي قرر فرسم قدرين اثنين هذه الليلة؛ قدرين مختلفين في المسار والمآل والغاية. انتهت الغاية التي خُلقت هي لأجلها، أما أنا فلا زال أمامي الكثير.

أضع رأسي على المخدة وقد أثقلتني وطأة الصور المتتابعة بسخاء شاذ، تساند بعضها بعضًا كأنما تصير جداراً في مكان قصيّ داخلي، استوطنته برودة منذ زمن، إلا أن وخزة ما تم تشخيصها بأنها نبضة حية، تهاجم كانتحاري ثبور هذا العدو العابر، ثم... أنام! لكن دعوني أولًا أخبركم بشيء: لقد كذبتُ إذ قلتُ ابتداء أن اعترافاتي قد قُدِمت لكم دون تحرير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لن نكون معًا

استنطاق الربّ