22-أبريل-2016

سوق نصيبين

هي: توضّب الكلمات مؤالفة بينها واللغة عبر رصف الكلمات واللحاق بالمعاني. تسأل دون أن ترفع رأسها: هل خسرت اليابان الحرب فعلًا.

أما أنا فلا أجيب بنعم أولا، لأنني أعتقد أن الموضوع يحتاج إلى أكثر من جواب، غير أنّ الموضوع في ذات الوقت لا يهمني بقدر ما يشغلني صوت القصف على مدينة نصيبين، المدينة الجارة، جارتنا الواقعة أعلى سكة الحديد. يقول الكرد في المنطقة عن المدن الواقعة هناك سرخت "ما يلي سكة القطار من جهة الجنوب"، ويسمون المدن هنا بـ بنخت "ما يلي سكة القطار من جهة الشمال".

إنّ نصيبين هي المدينة الجارة الأقرب إلى قامشلي، أكثر من أي مدينة أخرى، حيث يستطيع أطفال حي هليليكي رمي المدينة بالنقيفات، ويستطيعون أن يروا حركة المدينة، وبناءها وهو يرتفع صوب العلى، مقارنين دومًا بين المدينتين "قامشلي - نصيبين".

في التسعينيات من القرن الفائت وقبل أن تخرج إلينا الفضائيات وأن يدخل الستالايت إلى المدينة، كانت نصيبين تذخر بالقنوات التي تسيل اللعاب أكثر من أي شيء آخر، وسيتذكر من عاصروا تلك المرحلة في المدينة تلك القنوات التي دخلت بقوة، وخرجت بعدها على مهل، حيث كانت القنوات التي تعرض الإثارة، وتسيل اللعاب والجنس، فارتفعت إثرها أعمدة الهوائيات مع مقويات الساعي ذائعة الصيت حينها كماركة تستطيع ربطك بالعالم العاري، مع العلامة الحمراء، وهي نقطة الضوء أعلى الهوائي التي تشي بأكثر القنوات إثارة.

نصيبين هي المدينة التي كانت تمنح جارتها قامشلي بالقداحات والباستيق وكانت تمنحها قامشلي الشاي والسكر، وتمنحها دفئ التصوّف (مرة قالها أحد السائقين ناقلًا الحدث عن ذاكرة أحدهم، أنّ أحد مريدي بيت الخزنوي/ أئمة الطريقة النقشبندية في الجزيرة، أخذ معه حجر بناء، وقال بأنّه يود أن يبني منزله على الإيمان وبركات الخزنوي).

إنّها نصيبين ذاتها التي نسمع القصف اليومي عليها وكأنّها الأحجار تخرج عن الأبنية المتراصفة التي طالما نظر إليها أهالي قامشلي مقارنين بين مدينتيهم التوأمتين.

في بداية قصفها/ نصيبين، خالها الناس في قامشلي؛ في مدينتهم، قالها أحدهم أمام الفرن: لا تخافوا إنّ الصوت من نصيبين، هكذا يقتسم الجيران الدمار، فعلى مدار الخمس سنوات الأخيرة في سوريا وسِفر الخراب والويل كان صوت القصف والتفجيرات وكأنّها الخبز اليوميّ.

لكن بعد مضيّ أيام على القصف الذي بات يومياً، صار الشارع هاهنا ينظر بعين من تلتهم النار بيت جيرانه دون أن يستطيع التحريك ساكنا، فاقتسم الكثيرون قلوبهم، وأعينهم مع المدينة الجارة، ذات الذاكرة العميقة مع مدينتهم.

نصيبين هي الجارة التي تفصلنا عنها الأسلاك الشائكة، وتراها تعلوها أعمدة الدمار وأنت تدخن سيجارة ملفوفة بتبغ جلبه التجّار من هناك ذات يوم قبل أن تطالها النيران والخراب، هي كذلك الجيرة الصعبة التي تنأى بك عن الحب كما ينبغي، وعن تقديم واجب الحب، وواجب دلق وإن دلو ماء على النار التي أتت على المدينة، تنظر إلى الخراب فلا تستطيع أن تحرّك ساكنًا سوى أن تتفل على سيجارتك الملفوفة بتبغ قادم من هناك وكأنّما تطفئ بعض نار يحرقها، وتتمنى ألا تطال نار المدن الجارة هناك كما طالتنا هنا، وأن تكون الأسلاك الشائكة هذه المرة حاجزًا للدمار.

المدينة التوأم، المدينة الذاكرة، المدينة العبور، المدينة الأسلاك الشائكة، المدينة التي تختنق على مرأى العالم، ومرأى أعيننا، التي تدمع بالغازات حينًا، وبالحزن أحيانًا.

اقرأ/ي أيضًا:

سقوط محدب

فلنتعانق كناجِيَيْنِ من مجزرة