30-مايو-2016

إبراهيم جوابرة/ فلسطين

جلس في ساحة منزله الدوبلكس ذي الطابقين الواقع في مدينة سان خوزيه في الولايات المتحدة الأمريكية. 

- هاتي السكين يا مرا 

هم أن ينادي، أو للدقة ودّ لو أنه ينادي على زوجته أسوة بوالده، لكنه عدل عن ذلك لسببين. السبب الأول هو أن زوجته حتمًا سوف تزعجها تلك النبرة الآمرة الناهية كأنه شيخ عرب جالس في عزبته، وهذه الجملة قد تتدحرج ككرة ثلج تصنع مشاكل هو في غنى عنها. خاصة وأنها عادت لتوّها من عملها. السبب الثاني والأهم هو جيرانه الأمريكان الذين قد تزعجهم مناداته بصوت عالٍ من الساحة الملاصقة لساحتهم وبلغة غريبة تذكّرهم بلغة الإرهابيين في أفلام هوليوود.

لا يزال يذكر يوم احتفل بالذكرى العاشرة لاستلامه العمل في شركته في مدينة كوبرتينو، حيث دعا فريق العمل ومديره لسهرة ممزوجة بالكحول وعند الحادية عشرة وخمس دقائق بالضبط حضر شرطي إلى المنزل ليعلمهم أن قوانين المدينة لا تسمح بإصدار الضجة في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

نهض من جلسته الممزوجة بنسيم ربيع كاليفورنيا، إلى المطبخ ليحضر سكين البطيخ الذي اشتراه هذا اليوم تحديدًا. لم يأكل بطيخا منذ هجرته، البطيخة كبيرة وزوجته لا تحب البطيخ أصلًا، وإذا أصر عليها تأكل قطعة صغيرة جدًا مع بعض الجبنة الفيتا وكأسٍ من النبيذ.

هنالك على الأقل عشرة أنواع من علب البطيخ المقشّر والمعلب، وأنصاف البطيخات الملفوفة كأنها صنّعت في مصنع. كل الأنواع وجدها عدا بطيخة كاملة مستديرة، بطيخة كاملة يبث فيها شغفه الشرقي بأن يكون الأول الذي يخترقها بسكينه. على الرغم قوانين المتجر الصارمة أصرّ على شراء بطيخة كاملة مما تطلب حضور مدير السوبر ماركت شخصيًا للسماح بهذه الصفقة مع هذا المشتري، اشترى البطيخة دون أن يحصل على تخفيض فدفع تسعة عشر دولارًا وتسعٌ وتسعون سنتًا، وهذا لا يشمل ثمن السكين الذي أصبح الآن بيده.

بذل كل جهده في تقطيع البطيخة بالسكين الحادّة جدًا كيفما يذكر والدته في تقطعيها السريع. هل ينادي على ابنه جاكي الذي حتمًا يجلس في غرفته يستمع عبر جهاز الأيبود إلى موسيقى المتال الروك وفرقة "جَانس أند روزس" تحديدًا، سيحتاج إلى الصعود للطابق العلوي والطرق لخمس مرات على الأقل حتى يتكرّم جاكي بفتح الباب، حيث سيقول له على الأغلب أنه لا يحب البطيخ، هذا طبعًا إذا عرف ما هو البطيخ أصلًا.

بطيخة بدون بذور، بدون مستقبل ترسله لإنتاج ذرية جديدة، بطيخة للاستهلاك، بطيخة تحمل أجود أنواع المبيدات الحديثة وعديمة الطعم واللون والرائحة، بطيخة مهندسة جينيًا لتوافق كل متطلبات الحداثة من نفخ وتلميع وتحسين الطعم والمنظر، وكل ما لا علاقة له بالجوهر بطيخة صالحة للاستعمال لأسبوع من تاريخ اليوم. وبعدها لا يحق لك المطالبة بأي تعويضات.

تأمل شرحات -أو شقحات كما يحب تسميتها- البطيخ الملونة بالأخضر والأحمر، ذكّرته ببطيخ أيام الطفولة عندما كان يسرح مع أصدقائه إلى سهل شفا عمرو ليأكلوا البطيخ، فيأخذ كل منهم بطيخة يرميها على أقرب صخرة وثم يتناول اللب بيديه العاريتين الملطختين بالطين والغبار.

وضع كأس نبيذ المرلو الأسترالي الصنع، متذكرًا أن والده توقف عن الشرب في ساحة المنزل خوفًا من جاره المسلم الذي تدين حديثًا، وصار فجأة مزعوجًا من مظاهر الكفر في بلده وحارته، أما في بلاد الغرب الكافر هذه فمن العار ألا تشرب الكحول فذلك علامة قاطعة بأنك مدمن كحول سابق أو... حامل.

لم يأبه لاستنكار زوجته وتناول حزّ بطيخ ما زالت قشرته الخضراء عليه بيده وبدأ بأكله من أقرب نقطة إلى مركز البطيخة. 

البطيخ لذيذ، ولعبة الفوتبول الأمريكي في التلفزيون العملاق -الذي اشتراه في حملة يوم الجمعة الأسود- قبالته في أوجها، زوجته مشغولة بحاسوبها النقال الذي اشتراه أيضًا في نفس اليوم. هذا اليوم لا يشبه بتاتًا الشهور الأولى لهجرته، زوجته الضجرة تبكي يوميًا وتصرف ربع معاشه على الاتصالات بأهلها، اللكنات الغريبة وغير المفهومة في المطاعم والمحلات والعمل، والشعور بالوحدة.

سأل نفسه، ترى لماذا هاجر؟ هل هي الوظيفة الجيدة، أم الحياة الرغيدة، أم حب المغامرة، أم الابتعاد عن ماضٍ بليد من أجل مستقبل أكثر بلادة؟ ماذا أزعجه لكي يهاجر؟ صوت الآذان في الخامسة فجرًا، جرس الكنيسة المزعج في قيلولة الأحد، العرس والتعاليل المتواصلة بين الشتاء والشتاء والتي تصب صوتها في طبلات أذنيه، صراخ جاراته على بعض عندما يفحش ديك إحداهن بدجاجة الأخرى؟ أو الجلوس على درجات ساحة باب الدير بانتظارٍ لجودو.

لم يشعر بالانتماء في وطنه، فهو غريب عن الدولة بعلمها ذي النجمة السداسية، وغريب عن جاره السلفي، وغريب عن جاره الدرزي، بل وغريب عن جاره الكاثوليكي الذي شرح له بداية ما الفرق بين ملّتيهم كي يعايره بذلك لاحقًا، غريب عن وطن غير موجود، على ماذا الخلاف تمامًا؟ على أرض جده التي صودرت؟ 
-أحسن!
فعمه النصاب لا يستحقها وإذا خيّر بين أن تحصل عليها مستوطنة كريات آتا أو عمه فالجواب واضح. على منصب رئيس البلدية؟ على ضرورة منع الزواج المختلط؟ على المقعد الدائم للزبالة في الشارع الرئيسي؟ 

يمر المشهد السياسي أمامه كفيلم سينمائي فاشل، لماذا يكرهه الآخر؟ لماذا بذل سكان كريات آتا جهدهم حتى يفشل في استئجار شقة سكنية يعيش فيها وحده بعيدًا عن فضول جيرانه، وعيونهم التي تفحص كل جديد لديه، كمادة استهلاكية لأحاديث المساء القاضمة للوقت إلى ما لا نهاية.

ولماذا هو مقبوض، مقبوض جدًا كأن الجزء الداخلي من صدره آخذ بالتقلص.

ها هو بعيد عشرة آلاف ميل عن كل ذلك، بيتٌ مرهون للبنك ثمنه مليون دولار، يعمل مديرًا في إحدى أهم الشركات في العالم، زوجته أنهت دراستها وتعمل محاسبة في شركة أخرى. ابنه في ثانوية خاصة تعتبر من الأفضل في كاليفورنيا بتكلفة ثلاثين ألف دولار سنويًا.

لا توجد في المنزل أداة كهربائية واحدة عمرها يتجاوز العام، بعضها ما يزال في علبته، مساحة الساحة التي يجلس بها أكبر من ساحة الأعراس بجانب بيت والديه. وفريق رد سوكس الذي يكرهه خسران بفارق أربعة عشر نقطة، مما يعني أن رهانه مع زملائه بالعمل سيربح حتمًا، ابنه يحمل الجنسية الأمريكية، وهو معه الغرين كارد ولولا الحادي عشر من سبتمبر لكانت الجنسية معه أيضًا.
**

- اللعنة!
لقد عرف سرّ انقباضه، إنّه نصف البطيخة الذي لم ينجح بأكله، ينظر إليه وينادي عليه يقول له: - لا تتركني معرضًا للصندوق الأخضر أسوة بكل الفواكه التي تشتريها اشتهاءً لمنظرها. أنا مختلف، أنا نصف بطيخة ونصف البطيخة لا يترك، نصف البطيخة لزامٌ أن يؤكل.

التفت إلى الشارع الرئيسي، الغرباء يمرون مسرعين إلى عُلّبِهِم الخشبية، نظر إلى بيت جاره، ميّز الضوء المشتعل من الطابق العلوي، جيرانه الغرباء يحيونه كل يوم تحية الصباح إذا ما التقوا به. ولا يعرف أحدهم عن الآخر سوى اسمه ونوع السيارة التي يمتلكها.

من سيأكل نصف البطيخة إذن؟ كيف غيرته سبعة عشر عامًا في المهجر ليحنّ إلى ما صار يسميه "الوطن"! حاول أن يسترجع ذكرياته في الوطن الذي تركه، ولكن جدارًا من العشب تسلق إلى السماء حاجبًا ذكرياته. كل ما تذكره فقط أن نصف البطيخة ذلك لم يكن ليبقى غريبًا وحيدًا في المكان الذي أتى منه، نصف البطيخة هذا كان ليجد مكانًا في معدة أحد من أولئك الذين أحبهم أو كرههم، لا يهم.

لكنه حتمًا لم يكن ليبقى وحيدًا. ترك زوجته المستغربة شروده، صعد إلى غرفة النوم، أخرج جواز سفره الإسرائيلي ليفحص تاريخ انتهاء صلاحيته، وتلهّى بفكرة العودة كوسيلة لطرد الكوابيس في نومه.

اقرأ/ي أيضًا:

يبكين في غرف صغيرةٍ

نظرية نيوتن السوري