17-أغسطس-2021

تمثال للشاعرة شمبورسكا

دأبت الشاعرة البولندية فسوافا شمبورسكا (1923 - 2012)، الحاصلة على نوبل في الأدب سنة 1996، على كتابة ردود صحفية على أسئلة وكتابات أدباء ناشئين ونشرها في عمود بجريدة "الحياة الأدبية" البولندية [Zycie Literackie] في الفترة بين عامي 1961 و1981. تحدثت شمبورسكا عن تلك الفترة لاحقا مع محاورتها تيريسا فالاس فقالت إن الشعراء فيها كانوا ذوي مجد في بولندا "لكن لا ينبغي أن ننسى كم كانت تلك الأيام قاتمة وموحشة. كان يقال لنا إن لكل واحد فينا بركة لا حدود لها إذا هو اندمج مع الجموع غير المتعينة، في حين أننا جميعًا، في واقع الأمر، نتوق إلى الاختلاف، والبروز وسط الحشود. ولم تكن الخيارات المتاحة للبروز كثيرة آنذاك، وأفضلها كان ظهور اسم المرء مطبوعًا".

ما يلي نماذج من ردود شمبورسكا على الأدباء المبتدئين نشرته ذي نيويورك رفيو أوف بوكس في عدد منتصف آب/أغسطس 2021، مأخوذة من كتاب "كيف تبدأ الكتابة ومتى تتوقف"، الذي ينتظر صدوره في أكتوبر القادم عن دار نيوديركشنز الأمريكية مترجمًا إلى الإنجليزية بقلم كلير كفاناج.


إلى مؤلف "دنيا عازف البيانو"

ننصحك ألا تقرأ، لأشهر قليلة على الأقل، إلا للفكاهيين العظماء. وليس في هذا مضيعة لوقتك، فمن شأن هذا النشاط أن يوفر الراحة والاسترخاء لذهن أنهكته غنائيته. كما أنه يبيِّن عرَضًا حماقة الإفراط في تقدير أهمية الذات. وبعد هذا البرنامج العلاجي، سترى قصائدك بعين مختلفة. سيبهتك أن ترى جو قصيدة مثل "دنيا عازف البيانو" جوًا مصطنعصا، وأن صورة مثل "تلعقنا الحياة بلسان التناقضات" لا تملأك اعتزازًا بنفسك ككاتب.

ولك أطيب تحياتي

 

إلى سيكر ـ من كودوفا

لا، ليست لدينا أي أدلة إرشادية لكتابة الرواية. نسمع أن أمثال هذه الأشياء تظهر في الولايات المتحدة، لكننا نتجاسر ونشكِّك في قيمتها لسبب واحد وبسيط: أما كان الأجدر بأي كاتب يمتلك وصفة مضمونة للنجاح الأدبي أن يتكسب منها بدلا من أن يكسب عيشه من تأليف كتب الإرشادات؟ صح أم لا؟ صح طبعًا.

 

إلى ب ز د من كروزاو

"أرجوكم امنحوني بعض الأمل في النشر، فإن لم يكن، فعزاء على الأقل". لزام علينا، وقد قرأنا، أن نلجأ إلى الخيار الأخير. فانتبه، لو سمحت، إلى أننا الآن نريحك. بانتظارك مستقبل مبهر، مستقبل قارئ، وقارئ من أرفع طراز، نعني قارئًا متجرِّدًا -بانتظارك مستقبل محبٍّ للادب، يظل دائمًا نصيره الراسخ، ويكون فيه الغازي، لا المغزو. ستقرأه دائمًا طالبًا لمتعة القراءة. لا كاشفا لـ"الحيل"، أو متسائلًا لو أن هذه الفقرة أو تلك يمكن أن تكون أحسن كتابة، أو في مثل حسنها ولكن على نحو مختلف. بلا حسد، أو غمٍّ، أو نوبات حقد، ولا أحاسيس مما يرافق القارئ الذي يكتب أيضًا.

دانتي بالنسبة إليك سيبقى دائمًا دانتي، سواء أكانت له في عالم النشر عَمَّات يرعينه أم لا. لن يضنيك في الليل سؤالك لماذا ينشر سين، الذي يكتب الشعر الحر، بينما أنت يا من لا تنفد قوافيك وأنت تعد المقاطع العروضية على كلتا يديك، لا تحظى حتى برسائل اعتذار عن عدم النشر؟ تعبيرات وجه المحرر ستعني لك أقل من لا شيء، أما اختلاجاته في مراحلها المختلفة فإن لم تعنِ شيئًا لك فإنها لن تعني الكثير. وثمة أيضًا هذه المنفعة غير الهينة: الناس يتكلمون عن الكتّاب غير الأكفاء، لكنهم لا يتكلمون أبدًا عن القراء غير الأكفاء. هناك بالطبع قطعان من القراء الفاشلين - ومن نافلة القول أننا لا ندرجك فيهم - لكنهم بطريقة أو بأخرى يفلتون بجرمهم، في حين أن كل من يكتب ولا يصادفه النجاح تنهال عليه فورًا الغمزات والتنهدات. وحتى الحبيبات لا يعوَّل عليهن في هذه الحالات. فكيف هو إحساسك الآن؟ إحساس ملك؟ هذا ما نرجوه...

 

إلى فويتشك ز ـ من كييلسي

بما للشباب من خلو بال، تكتب في أي موضوع يخطر لك. تفيض الكلمات مفيض انهيار ثلجي في الربيع. حاول بين الحين والآخر أن تقضم قلمك الرصاص وأنت تحملق عبر الشباك في يأس.

 

إلى م س من كوشالين

"تعرَّضت لانتقادات لأنني أؤلف قصصي ولا أستمدها من تجربتي. هل هذا النقد في محله؟" لا، ليس في محله. هذه الافتراضات المذهبية تستبعد ثلاثة أرباع الأدب العالمي. ما من كاتب يعتمد على حياته وحدها. إنما يستعير تجارب الآخرين حينما تناسبه ويصهرها في تجربته - أو يستعمل خياله. لكن الفنان الحقيقي يتخيل أحداثًا لها كل قوة الحقيقة: فإذا بها تجارب شخصية. فلوبير أعلن أنه إيما بوفاري لهذا السبب على وجه التحديد. لو كان الرافضون قد أقنعوه بأن في الخيال تجاوزًا، لصرف النظر عن الرواية راجيًا أن تظهر بوفاري ما ذات يوم لتنهيها هي. ولكانت النتيجة بلا شك عمل مهووس حقيقي بالكتابة. وكفانا تنظيرًا عند هذا الحد. عندما تبعث إلينا بقصصك، لن نقارنها بسيرتك. نحن نقاد أدب ولسنا مفتشي مباحث.

 فسوافا شمبورسكا (1923 - 2012)

إلى بر. ز كيه من جادسك

كانت العانس الكلاسيكية العجوز كائنًا عديم البائنة محكومًا عليها بالذبول في خمول بجوار أبويها. فالعمل بأجر لم يكن خيارًا مطروحًا، ومن ثم فالاستقلال أبعد من متناول يديها. كانت حياة العانس القديمة جحيمًا. فكل إجازة تأتيها بمذلة جديدة، وكل عام يأتي على آمالها في الزواج والأمومة. وكان الناس يسخرون من العوانس الكبيرات. فهو ضحك على حساب شخص آخر، وينم عن ذوق شديد السقم. والعوانس العجوزات مصدر للكوميديا في روايتك القصيرة "أوقات كراكوف". لكننا لم نجد في ذلك تسلية.

 

إلى ل ك ب ك من سوبسك

نطالب شاعرًا يصوِّر نفسه في صورة إيكاروس أكثر مما تكشف عنه قصيدتك المطوَّلة. أنت لا تدرك أن إيكاروس هذا الزمن يطير فوق أفق مخالف تمامًا. فهو يرى طرقًا سريعة تغص بالسيارات والشاحنات، ومطارات، ومدارج طيارات، ومدنا ضخمة، وموانئ فسيحة، وأشياء أخرى من هذا القبيل. ألا يحتمل أحيانًا أن تمرق جنب أذنه طائرة؟

 

إلى م ل من وارسو

لا نتوقع أن تظهر يومًا ما زاوية أسبوعية لنصوص مؤلفة بلغة إسبرانتو، فهي لغة مصطنعة بلا تنوع أو لكنات. لا أحد يفكر بلغة إسبرانتو، ولا أحد يستعملها في الحياة اليومية ونستبعد أن تنتج أعمالًا دائمة القيمة. نحيِّي حلمك بكلام بشري مشترك، لكننا نرجو أن ينشأ (بإذن الله) عبر التطور السلمي لجميع اللغات. ومع ذلك لا نوافق على أن وجود لغة علمية سوف يمنع كل حروب المستقبل. إذ يعلِّمنا التاريخ والتجربة الشخصية خلاف ذلك. وثمة مثال يطرح نفسه: إذ سدَّد السيد ألف للتو لكمة إلى السيد باء أمام نافذتنا، برغم أن الاثنين يتكلمان البولندية.

 

إلى ميليسا من كراكوف

في هذا العالم، كل شيء يبلى بالاستعمال اليومي، إلا قواعد النحو. فلك أن تستعمليها قدر ما تشائين. وستجدين أنها تحتمل.

 

إلى ل أ 88 من نواهوتا

أنت ترفض مهنتك الحالية لكونها "غير شعرية" دون حتى أن تخبرنا بطبيعة مهنتك. فهل هي فعلًا أدنى من أن تثير اهتمامنا؟ إننا نقابل هذا العزوف كثيرًا في هذه الأيام. فعمارتنا على سبيل المثال تخضع لإنشاءات منذ سنين، ومن ثم يظهر في طرقتنا عشرات العمال يوميا، ويطرقون الباب فنسأل "من بالباب؟" ولا نجد أحدا يذكر اسم مهنته: النقاش أو النجار أو الحداد أو السباك أو الكهربائي. بدلا من ذلك نجاب دائمًا بـ"المواسير" أو "الكهرباء" أو "السقف". وهذا عار، لأن للنقاشين تاريخًا مجيدًا لا يحلم به "السقف". ثمة مهنة أخرى وقعت فريسة هذا الزهو الزائف. فـ"سعاة البريد" الآن هم "حملة الرسائل" أو "موزعو الرسائل". متى أصبحت "البريد" كلمة مبتذلة؟

 

إلى أ ل من كراكوف

لو أنك تفتقر إلى الشجاعة للمجيء والحديث معنا عن قصائدك، فلم لا تفعلها فقط وتأتي؟ فنحن نرحب بالجبناء. لأنهم بشكل عام يضعون لأنفسهم معايير أعلى، وهم أكثر إصرارًا، وأعمق تفكيرًا. وتلك الخصال في ذاتها لا تعني أي شيء، ولكنها في حالة وجود القدرة الفطرية تؤدي دورا لا يقدَّر بثمن، وهو أنها تحوِّل هذه القدرة إلى موهبة. ولستَ بحاجة إلى استئجار بذلة سهرة طويلة الذيل من أجل زيارتنا، فنحن نفتح أبوابنا حتى الظهر فقط.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عبد الفتاح كيليطو وضرورية الندم الفكري

ممدوح عزام.. مصائر الأبطال وشيفرات الكتابة السردية