نشر جهاز الأمن الداخلي في وزارة الداخلية السورية خلال الفترة الماضية صورًا لمتهمين بجرائم جنائية، بالإضافة إلى عناصر وضباط من النظام السابق متهمين بانتهاكات ضد السوريين. لكن هذا الإجراء يثير جدلًا قانونيًا، إذ يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان التي تكفل الخصوصية و"افتراض البراءة" حتى صدور حكم قضائي نهائي. كما يطرح تساؤلات حول التزام السلطات بالمعايير القانونية وأثر ذلك على العدالة الانتقالية والحقوق المدنية.
وكان المسؤول الأمني عن مدينة دمشق، المقدم عبد الرحمن الدباغ، قد قال في تصريحات لوكالة الأنباء السورية "سانا" إنه "بعد الرصد والمتابعة، تمكنا من إلقاء القبض على أحد رؤوس المجرمين المسؤولين عن مجزرة حي التضامن في دمشق قبل 12 عامًا"، مضيفًا أنه "على إثر التحقيقات الأولية مع المجرم، توصلنا إلى عدة أشخاص كانوا قد شاركوا في المجزرة، وألقينا القبض على اثنين منهم".
وفي المقابل، تكررت عمليات نشر وسائل الإعلام المحلية في سوريا صورًا لأشخاص متهمين بارتكاب جرائم جنائية، مثل السرقة والاتجار بالمخدرات وما إلى ذلك من جرائم أخرى، دون مراعاة لمبدأ "افتراض البراءة" أو التأكد من صدور أحكام قضائية نهائية بحقهم، مما قد يؤدي إلى الإضرار بسمعة المتهمين، حتى لو ثبتت براءتهم لاحقًا، فضلًا عن مواجهة عائلاتهم لضغوط اجتماعية ونفسية.
تحديات كبيرة للموازنة بين الأمن والخصوصية
يؤكد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديثه لموقع "الترا صوت" وجود "تحدٍ قانوني حول كيفية الموازنة بين حق المجتمع من طرف، وحق الأفراد في الخصوصية من طرف آخر"، مرجعًا ذلك إلى عدة أسباب، تأتي في مقدمتها "الموازنة بين الأمن والخصوصية بناءً على مبدأ افتراض البراءة القانوني حتى تثبت إدانة المتهم"، لافتًا إلى أنه "في حال تم نشر صور المتهمين قبل صدور الحكم القضائي، فإن ذلك يُعتبر انتهاكًا لمبدأ افتراض البراءة"، مشيرًا إلى أن نشر الصور "قد يضر بسمعتهم في حال تبيّن لاحقًا أنهم غير مذنبين، وصدر بحقهم حكم بالبراءة".
يطرح نشر جهاز الأمن الداخلي في سوريا صور المتهمين بارتكاب جرائم تساؤلات حول التزام السلطات بالمعايير القانونية وأثر ذلك على العدالة الانتقالية والحقوق المدنية
ويشير عبد الغني إلى أن "المصلحة العامة مقابل الحق في الخصوصية" قد تبرر أحيانًا نشر صور المتهمين. ويستشهد باعتقال جهاز الأمن الداخلي في دمشق عددًا من المشتبه بهم في مجازر حي التضامن، معتبرًا أن نشر صورهم قد يساعد في الكشف عن متعاونين آخرين معهم.
وأضاف عبد الغني أن المجتمع في هذا الجانب "يساعد في التعرّف على المجرمين المتوارين عن الأنظار"، لافتًا إلى أن وحدات تحقيق الجرائم تقوم في بعض الأحيان بـ"رسم صور تقريبية لمتهمين لا تملك صورًا شخصية لهم ليتعرف عليهم المجتمع، أو نشر صورة لمجرم تطلب ممن يشاهده الإبلاغ عنه".
وينوه عبد الغني إلى أن "نشر الصور قد يؤدي إلى تحيز مجتمعي ضد المتهم، وقد يشكل ضغطًا على الهيئات القضائية، خاصة أنه لا توجد هيئة محلفين في سوريا"، وعلى هذا الأساس يشدد عبد الغني على ضرورة "وجود توازن" يتمثل في معايير يحددها جهاز الأمن الداخلي، والقضاء، بالإضافة إلى الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والتي تربط الموافقة أو عدم الموافقة على نشر صور المتهمين بمعايير واضحة.
ويضيف عبد الغني أنه ينبغي "أن يكون لدى المؤسسات الإعلامية مدونات سلوك تحدد معايير النشر، بالإضافة إلى المعايير التي تحدد تمويه الصور أو عدم تمويهها"، لافتًا إلى أن "إثارة وسائل الإعلام لهذه النقاشات من شأنها المساهمة في توعية المجتمع"، في إشارة إلى المقاطع المصوّرة التي يتم تداولها عبر الهواتف على منصات التواصل الاجتماعي، موضحًا أن هذه المقاطع تندرج تحت بنود "التشهير وعرقلة مسار العدالة".
العودة إلى قانون أصول المحاكمات الجزائية
من جانبه، يشير المحامي السوري أحمد عارف الشعال، في حديثه لـ"الترا صوت"، إلى البدائل التي يمكن اللجوء إليها للحفاظ على خصوصية المتهمين، مشيرًا إلى وجود "قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر عام 1950، والذي يتحدث عن ضمانات المحاكمة للمتهمين، من بينها أن يكون قرار إيقافه عبر النيابة العامة، وأن يمثله محامٍ أمام قاضي التحقيق والمحاكم الجزائية"، لافتًا إلى أن هذه الإجراءات مدرجة ضمن القانون السوري الصادر قبل استلام حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة في سوريا.
ويؤكد الشعال أن المجتمع السوري يمر بمرحلة جديدة بعد سنوات من القمع الممنهج الذي مارسه النظام السابق. ويشير إلى أن سوريا شهدت خلال هذه الفترة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ارتكبها أشخاص بعضهم أُفرج عنه، بينما لجأ آخرون إلى تسوية أوضاعهم القانونية. لكنه يوضح أن "محاكمة مرتكبي الجرائم الكبرى لا تزال تواجه عقبات بسبب تعطيل القانون".
أثارت فعالية نُظمت في #سجن_صيدنايا موجةً من الانتقادات وردود الفعل التي اتهمت منظمي الفعالية بمحاولة طمس أدلة الجرائم التي ارتكبها النظام السوري السابق في السجون والمعتقلات.
🟢 التفاصيل في التقرير: https://t.co/uyNf2Dxspi pic.twitter.com/yaBTP0LveW
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) February 15, 2025
ويوضح الشعال في حديثه أن "الجهاز القضائي لا يزال قائمًا"، وهو الأمر الذي يفرض "تطبيق القانون، على أن تتم إحالة هذه الأسماء إلى المحاكم". كما تطرق الشعال في حديثه إلى ضرورة "الإسراع في إصدار قانون العدالة الانتقالية، على أن يتضمن الجرائم التي ارتُكبت خلال الـ14 عامًا الماضية"، معيدًا التذكير بكلام رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، عندما أشار إلى وجود "حد فاصل بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي"، وهنا يؤكد الشعال على أن "الضامن لهذا الحد الفاصل هو القانون".
ويشير الشعال إلى أنه ينبغي أن تكون هناك في الوقت الراهن "سلطة تشريعية مؤقتة تصدر قانون العدالة الانتقالية لضمان شروط المحاكمة"، لافتًا إلى أن "الأسماء المتهمة بارتكاب مجازر غير معروفة إن كانت قد أُوقفت أو اختُطفت، وذلك لغياب الجهة التي يمكن مراجعتها"، معيدًا التأكيد على ضرورة "العمل وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية بإشراف من أحد القضاة أو إصدار قانون على وجه السرعة يتضمن آلية عمل العدالة الانتقالية".
وكانت اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني السوري قد بدأت أولى جلساتها التشاورية في مدينة حمص، وسط سوريا. وبحسب رئيس اللجنة التحضيرية، فإن "القضايا الجوهرية" التي سيناقشها المؤتمر تشمل "العدالة الانتقالية، البناء الدستوري، إصلاح المؤسسات العامة، الحريات، دور منظمات المجتمع المدني، والمبادئ الاقتصادية التي ستشكل دعامة قوية لسوريا المستقبل".