29-سبتمبر-2021

رمز النوع الاجتماعي للإناث (Getty)

1

هناك حلقة من حلقات المسلسل السوري "الفصول الأربعة" ترد تحت عنوان "الممنوع والمرغوب"، تأتي هذه الحلقة لتُسلّط الضوء على ذلك الهوس النسائي بالعُمر ومروره، تَظهر بطلات المسلسلات في تلك الحلقة وهنّ يقفنَ أمام المرايا ليلًا ونهارًا في محاولة منهنّ للتأكّد من ما يُسمى "خطوط الضحك"، وهي تلك الخطوط التي تَظهر تحت العينين –عند الضحك- بشكل طبيعي بفعل تقدّم الإنسان في العمر.

"سنّ اليأس" عبارة فيها إجحاف وظلم كبيرين بحقّ النساء عمومًا، فهذه العبارة اللفظية لا تراعي حقيقة أنّنا كبشر كائنات رمزية تؤثّر فينا العبارات والألفاظ

تظهر بطلات المسلسل في تلك الحلقة وهنّ منزعجات وممتعضات من هذه الخطوط حتى أنّ إحداهنّ تُقرّر التوقّف عن الضحك والابتسام حتى لا تظهر تلك الخطوط على وجهها فتُذكّرها بحقيقة تقدمّها في السنّ. كلّما استذكرتُ تفصيلات تلك الحلقة أفكّر في تلك البديهية الشائعة حول النساء والتي تقول بأنّه من أكثر التصرّفات المناقضة للياقة في التعامل مع النساء أن تَسأل إحداهنّ عن عمرها، أفكّر بهذه البديهية وفي مدى ارتباطها بما يُطلق عليه "سنّ اليأس" عند المرأة، أفكّر في أنّ العديد من النساء ربّما تكره ذكر عمرها أو الإقرار بحقيقة أنّها تتقدّم فيه لأنّها مع كلّ سنة جديدة لها تقترب من هذه المرحلة العمرية المربكة، هذه المرحلة التي سُميت تاريخيًا بـ"سنّ اليأس".

اقرأ/ي أيضًا: من تفاحة المعرفة إلى بستان تفاح الجمال

ويُمكن القول بأنّ العبارة اللفظية التي تأتي لتصف دخول أي امرأة المرحلة العمرية فيما بعد الخمسين على اعتبار أنّ تلك المرحلة هي "سنّ اليأس" هي عبارة فيها إجحاف وظلم كبيرين بحقّ النساء عمومًا، فهذه العبارة اللفظية لا تراعي حقيقة أنّنا كبشر كائنات رمزية تؤثّر فينا العبارات والألفاظ، وتكون مساهمة في العديد من الأوضاع في تشكيل ردات فعلنا على العالم من حولنا. ويُمكن القول بأنّ هذه العبارة اللفظية التي تصف مرحلة عمرية من حياة المرأة، يحصل فيها تغيّر بيولوجي طبيعي في جسدها وتؤدي إلى انقطاع دورتها الشهرية، دون أدنى اعتبار لما تفعله ألفاظها وما تحمله من شكلِ عنفِ رمزي يأتي ليصوّر للمرأة أنّ تقدّمها في السنّ كفيلٌ بأنّ يدخلها في مرحلة عمرية خطيرة يائسة إلى أبعد الحدود لا تقوم لها قائمة بعدها، ليست هي العبارة الأولى والأخيرة من هذا النوع، فمعجمية اللغة مليئة بعبارات وألفاظ تُميّز ضدّ المرأة وتمارس عليها عنفًا رمزيًا لغويًا حيثُ تصورّها بما هي ليست عليه وما هو ليس فيها.

 

2

أغنية "مرايتي" لرشا رزق من فيلم "سُكّر بنات" تأتي كما لو كانت محادثة تجري بين امرأة ومرآتها، تطلب المرأة من مرآتها أن تقول لها إنّها أنعمُ النساء وأجملهنّ على الإطلاق "قوليلي إنو أنا أحلى وحدة فيهنّ، أنعم وحدة فيهنّ".

وتُكمِل طلبها بأن تَسأل مرآتها بأن تراها هي وحدها دون بقية النساء "شوفيني وما تشوفيهنّ". دائمًا ما يأخذني الاستماع إلى هذه الأغنية إلى قصة بياض الثلج والأقزام السبعة، هذه القصة العالمية التي تكون فيها المرآة بطلة بشكلٍ أو بآخر، حيثُ ترد في سياقات القصة متعالية على شيئِتها، لتكون بمثابة الرفيقة والصديقة لزوجة الأب الشريرة؛ هذه الزوجة التي تظهر في القصة كمُصابة بهوس يُمكن تسميته هوس الوصول إلى الجمال النسائي الأقصى، أي ذلك الجمال النهائي والمثالي والكامل الذي لا جمال قبله ولا بعد. ويُمكن القول بأنّ هوس زوجة الأب بالوصول إلى الجمال النسائي الأقصى وسؤالها الدائم لمرآتها عن المرأة الأجمل بقولها: "مرايتي يا مرايتي، مين أحلى مني؟" هو هوس يدفعني دومًا للتفكير في شكله، أو في الطريقة التي تمّ تقديمه فيها عبر القصة، ماذا لو كان هوسًا نسائيًا مختلفًا يجعلُ الزوجة تقف أمام مرآتها لتسألها: "مرايتي، يا مرايتي، مين أذكى مني؟"، ربّما لو أنّ هذا التغيير البسيط طال هذا الجزء من القصة، لأدى ذلك إلى حدوث تغييرات تطال كلمات الأغاني التي تستلهم القصة أيضًا، عندها مثلًا يُمكن لامرأة مثلي أن تستَمِعَ إلى كلمات أغنية مختلفة لرشا رزق، تحادث فيها المرأة مرآتها وتقول لها: "قوليلي إنو أنا أذكى وحدة فيهنّ، أعقل وحدة فيهنّ"، فيُعجبها ما سَمعت، دون أن تضطر أن تكتبَ نصًّا لتُعبّر فيه عن اعتراضها على صيغة التعميم التي تُوردها القصص والحكايا والأغاني وتسوق فيها الهوس النسائي بالوصول إلى الجمال الأقصى كلازمة دائمة، ناسية أو متناسية أنّ بجعة سوداء واحدة –مثلي أنا- مهووسة بالوصول إلى الذكاء النسائي الأقصى، كفيلة بأن تكون الاستثناء الذي يكسِر كلّ تعميم.

 

3

يفتتح الروائي والكاتب الإسباني خوان خوسيه مياس روايته "هكذا كانت الوحدة" بعبارة يتحدّث فيها عن بطلة روايته إيلينا ويقول: "كانت إيلينا تنزعُ شعر ساقيها في الحمام عندما رنّ هاتفها ليعلموها بوفاة أمها".

من حقّ المرأة وهي تنظر إلى جسدها في المرايا أن تفتنها يناعته، ومن حقّها أيضًا أن لا يُرعبها فيه منظر شَعرة نافرة!

يُكمل مياس حديثه عن بطلته في الصفحات القادمة من الرواية ويُخبر بأنّ بطلته عندما عادت إلى الحمام بعد أن أنهت مكالمتها الهاتفية لم تُكمل فِعلَها النسائي الخاصّ هذا، حيثُ قرّرت عدم إكمال إزالة الشعر عن ساقها اليُسرى لأنّ الشمع الذي وضعته عليها قد يبسَ وتصلّب أثناء مكالمتها الهاتفية التي جاءت لتُنبئها بوفاة أمها.

اقرأ/ي أيضًا: تعويذة في مرآة الأنوثة

كلّما تذكّرتُ افتتاحية هذه الرواية خَطرت على بالي قصة أخرى للكاتب والقاصّ الفلسطيني زياد خداش، جاءت القصة تحت عنوان "نسيان" وقد بدأت افتتاحيتها بالآتي: "شَعرة طويلة منسية في ساق امرأة جميلة جدًا، تجلس المرأة في المقهى في انتظار رجل جديد، الساقان اليانعتان ملتَفّتان فوق بعضهما البعض"، تحكي القصة في باقي تفصيلاتها عن هذه المرأة الجميلة جدًا وكيف أنّ هذه الشَعرة الطويلة لفتت نظر الرجل في ساقها ، حيثُ إنّ نظره لما وقع عليها بدت له: "كلصّ مكشوف وأهوج"، وأنّه اضطرب بعدها، وتعذّر بالذهاب إلى حمام الرجال، حيثُ إنّ منظرها في ساق المرأة الجميلة جدًا كان كفيلًا بأن ينفي عنده كلّ صفاتها الجمالية، وأن يجعله ينفر منها ويُغادر مكان اللقاء هاربًا من الحمام دون استئذان. وبالتفكير في هاتين الافتتاحيتين للرواية والقصة، يُمكن القول بأنّه رغمَ أنّ لهذا الشأن النسائي الخاصّ (إزالة شَعر الساق والجسد) أهميته بالنسبة للنساء عمومًا، إلا أنّ الامتناع عنه عند بعض النساء قد يأتي في بعض الأحيان كدلالة أو تعبير احتجاجي على فِعْل نسائي تمييزي (مثل ذلك الصديق الذي أخبرني عن صديقته التي تمتنع عن هذا الفعل النسائي في سياق مطالبتها بالمساواة مع الرجل)، أو قد يأتي عند بعضهنّ الآخر كتعبير احتجاجي على مرورهنّ بمأزق وجودي (مثل الحزن والكآبة والقلق الوجودي)، وفي كلّ الأحوال، فإنّ لكلّ امرأة مُطلق الحرية في تحديد موقفها من هذا الفِعل النسائي الخاصّ؛ فمن حقّها وهي تنظر إلى جسدها في المرايا أن تفتنها يناعته، ومن حقّها –كذلك- أن لا يُرعبها فيه منظر شَعرة نافرة!

 

اقرأ/ي أيضًا:

أحاديث في الجمال وما ورائياته

أجساد الفلسطينيات في المنطق الاستعماري المتحيّز