11-أكتوبر-2022
ندى منزلجي

مجموعة بُقعٌ داكنةٌ على ظاهر الكفّ

لعلّ أكثر ما يلفتُ في تجربة الشّاعرة السّوريّة ندى منزلجي هو الاستغراق. والكلمة مردّها هو ذلك الوقت المستقطع الّذي يفصل بين مجموعاتها الثلاث. وقتٌ يحقُّ للقارئ أو المتابع أن يسأل: بمَ تملؤه؟ وكيف تزجيه؟ وما الذي يُساعِدها على قطعه إن لم تكُن تكتب شعرًا أو تفكّر في كتابته. معروف أنّ الشّعر وصاحبه في حالة مطاردة وتعقّب، وأولى بشائر هذه المطاردة هي الوقت.

ما يظهر أمامنا في مجموعة منزلجي الجديدة "بُقعٌ داكنةٌ على ظاهر الكفّ"  أنّنا أمام مسارات شعريّة وليسَ قصيدة واحدة

 

ما يظهر أمامنا في مجموعة منزلجي الجديدة "بُقعٌ داكنةٌ على ظاهر الكفّ" (دار النهضة العربية، بيروت 2022) أنّنا أمام مسارات شعريّة وليسَ قصيدة واحدة. تبتدأ الشّاعرة مشوارها وكأنّها تُحاور نفسها وتسردُ تفاصيلها على كائن خفيّ وغير مرئيّ في الصّورة، كائن مختفٍ ومجهول، على الأرجح هو الشّعر في نهاية المطاف. ولعلّ أوّل ما يدخلنا إلى هذا الانطباع قصيدتها التي تفتتح بها المجموعة حين تتحدّث عن السّأم:" لستُ قاسية/ إنّه السّأمُ الّذي يربطُ لساني/ يحرقُ عشبَ قلبي/ لا أعرفُ كيف أهدهدني/ فتكفُّ الرّعشةُ عن قصفِ ظهري". تتعاطى منزلجي مع السّأم هنا وكأنّه عطيّتُها الشّخصيّة أو شيء يخصُّها وحدها، مزاجُها الشّخصي ورفيقُ دربها. وعلى هذه الشّاكلة تسير وتنسحب باقي قصائد المجموعة.

عنوان المجموعة لا يقدّم أيّ إضافة للنظر داخل تجربة المجموعة وتفاصيلها. كأنّه عنوان يبحث عن عنوان ولا يشي بفوران المجموعة وغلياناتها الداخليّة. كذلك الكائن المتشعّب الذي وقّعه الفنان فادي يازجي وساهم في إبرازه منير الشعراني. ملتبس ومتحيّر بين الشخص والطير والأجنحة والوجه الممتدّ ذي الشّعر المنسدل مع الهواء.

تتمكّن صاحبة "سرقات شاعر مغمور" من خلق موقف جديد تجاه الكلمات. فالكلمات الّتي يستبعدُ القارئ مصادفتها داخل ديوان شعرٍ حديث، تطلعُ أمامه:" التشكّي.. أجثمُ.. مصمتة.. أتلمّظُ.. تميمتهُ.. أهشّهُ.. كمزلاج.. اللحيمة.. يقرقشُها.. إلخ..". كلمات تخرج على شكل تدافع حسّي لغويّ منضبط.

تقع المجموعة في 152 صفحة من القطع الوسط، وتتوزّع على أربعة أبواب: "نومٌ مضطرب داخل قفص مفتوح" – "إلى الأثير الذي أعبره" – "أحسبُ قلبي قطًا كلّمًا أضعتهُ يجد طريقه إلى البيت" – "إقامة طويلة على الشّرفة".

تتوزّع نصوص هذه الأبواب على قصائد والقصائد في مقاطع وليست دفعة واحدة، وكأنّها تأخذ استراحة. معظم قصائد المجموعة تشعرُ قارئها بنوع من النوستالجيا البعيدة، شبيهة برسوم طفوليّة أوّليّة متأرجحة بين الوحدة والسّأم والمناجاة والحقول السّرديّة المشبعة وغيرها. تقول: "ألمٌ ضالٌ ابنُ ألمٍ ضالٍ". لا أدري لو كان يخطر على بالِ الشّاعرة لحظةَ كتابة هذه القصيدة بيت أحمد المتنبّي الشّبيه:"العارض الهتن بن العارض الهتن... بن العارض الهتن بن العارض الهتن".

في قصيدتها "اثنتا عشرة متتالية" نجد كائنًا بشريًا في حال من الوحشة والتوغّل في الذّات الغاربة وغير المعلنة، كائن هو مزيج من التوحّد لم يعد يملك سوى الكلمات ليقولها ويقدّمها. تقول:" وحين شويتني في الفرن/ كنتُ أسيحُ/ كان رأسي يصغرُ/ وتسيلُ ساقاي". قصيدة التجلّي والحضرة حوار مع الله تتكلّم معه وتناجيه وكأنّه ماثلٌ والقصيدة تختصرُ العالم.

القصائد البارقة والهشّة التي تضعها منزلجي بين يدي القارئ هي قصائد تتحدّث وتتحاور مع الكائنات. ولا شكّ أنّها تعاني من مضاعفات الشّعر وتستدعي تأويلاته الضروريّة

القصائد البارقة والهشّة التي تضعها منزلجي بين يدي القارئ هي قصائد تتحدّث وتتحاور مع الكائنات. ولا شكّ أنّها تعاني من مضاعفات الشّعر وتستدعي تأويلاته الضروريّة. تارةً نرى فيها سكينةً وطمأنينة وأخرى انفجارات عابقة على شكل وخزٍ ونفحات. المعجم الذي تقدّمه الشّاعرة في إصدارها الثالث متنوّع تدفعهُ تلك الموسيقى الخفيفة في الخلف واللّغة التوصيفيّة البارزة.

"الغيمُ لم يأتِ/ المطرُ كلُّهُ في الدّاخل/ المطرُ المستمرُّ منذ أمدٍ بعيد/ الشّرايين الموحلةُ/ والرئتان الغارقتان تحت الماء مثل حقلِ أرزّ/ بلى/ مشاعري سيئةٌ/ أيُّ غرابةٍ في ذلك". بهذه البساطة تصرّحُ القصائد بما لديها وتحيلُ قارئها إلى طريدته الدائمة وهي الشّعر.