04-يناير-2022

جياكومتي في محترفه

كيف يرى الموت ظلّه في مخلوقاتٍ نحتيّةٍ ترتفع بأطراف جحيمها عن الأرض الموطوءة بالخراب، كي تصل سماء العزلة، تلك التي يتعقّبها الكائن في زمن الاستلاب الإنسانيّ المداس بمجنزرات الخيبة الذاتيّة في مصائر الوجود التي استطاع جياكومتي من استكناه عوالمها الغائرة في الضمير البشريّ، ولا يبلغ الفنّ هذه المراتب إلّا بعد امتصاص الفنّان لجحيمه، بوصفه جرحًا سرّيًا يؤهله من لحس حواف سكّين المحنة الوجوديّة، وقد استغور جان جينيه عالم جياكومتي وكأنّه يبحث عن زمنٍ ضائعٍ في جسده، أو موتٍ لا يعرف هيأته سوى الفنّان ذاته. هكذا استدرج جياكومتي صديقه إلى مراتع الجحيم المتخفّي في الرّوح والجسد قبل العقل، فكتب جينيه نصّه الشعريّ والفكريّ في آن، مستعلمًا فيه عن مكامن نصاعة ذلك الجرح النابت في اللحم الأسطوريّ لتجربةٍ جعلت من النّحت ممرًّا سريًّا لعناق تلك الوحشة، حيث بلاغة الألم هي النّضيدة الفكريّة لجسد الوجود المأهول باعتكاف الزمن داخل الإنسان.   

جياكومتي يبتعد عن فرضيّة موازاة الفنّ للحياة، فهو يرى بأنّ محنة الإنسان الوجوديّة أعلى قيمةٍ من معجزات الفنّ الكبرى

ينبّه سارتر في تناوله لمخلوقات جياكومتي "أنه لا يطمح للأبديّ"، ألأنّه يرى الفنّ حالةً حدّيةً تحضر لتقول سرّها في بئر الوجود، الذي هو الجسد، ثم تنصرف إلى زوالها؟ ويستطرد سارتر بأنّ النحت قبل  جياكومتي فنٌّ معنيٌّ بإنتاج الجثث، لكن مع مجيئه أخذ هذا الفن يستمدّ من الحياة مثاله الفنيّ، فوجوهه تثبت بأنّ الألم يمنح الشكل الإنسانيّ إيقاعًا أسطوريًّا، وهذا ما أبرزه هوس جياكومتي في مطاردة ظلال العدم في شوارع باريس.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| بيار سولاج: يرشدني ما يحدث على اللوحة إلى ما أريد رسمه

تتّسم عوالم مخلوقاته بتوسعة الحيّز الوجوديّ للعمل الفنيّ، ذاهبًا بذلك نحو اجتراح أحيازٍ تستلّ من الشكل الفنيّ نفسه فضاءها الخاص، بذلك يعمد إلى إزالة "سمنة المكان"، لكن أيّ مكانٍ يعنيه سارتر؟ أيعني أنّه يتسامى بالمثال إلى درجات التفكير بانضغاط الحياة داخل الشكل الفنيّ المراد خلقه، ليحلّ الايهام الوجوديّ، فنغدو في حيرةٍ؛ أنحن أمام عملٍ فنيٍّ أم عاهة جديدٍ؟ وهل بغير تمثّلات الموت يستطيع الفنّان أن يؤثّث حيّزه بالترحال الدائم خارج المكان؟ ربما بهذا وحده تزال سمنة الأمكنة، لأنّ العمل الفنيّ يسكن عقل الزمن وجسده، وليس كما يظنّ بعضٌ من الفنّانين من عاطلي الخيال والتّجربة.

ففي استبصار عالم تلك المخلوقات نتبيّن ثمّة إشاراتٍ لموت الزّمن الفنيّ، إذ في التنزّه بين جدران ذلك القبو الرّوحيّ للفنّان، وأعني به محترفه الخاص، نلتقي بالعديد من الأعمال المهشّمة، والمركونة تحت الطاولات من رسومٍ ومنحوتاتٍ، ويعلّل سارتر هذه الأفعال بأنّ جياكومتي يبتعد عن فرضيّة موازاة الفنّ للحياة، فهو يرى بأنّ محنة الإنسان الوجوديّة أعلى قيمةٍ من معجزات الفنّ الكبرى، ولا خلود للإنسان إلّا في تشرّده الداخليّ، وقد أثبت ذلك  فيما خلق من أعمالٍ فنيّةٍ تفوق أنموذجها، وفي كلتا الحالتين هو ميّالٌ للوجود الفنيّ لا الموجود المكانيّ، وأعني المتاحف، وصالات العرض، وتأكدت نزعته هذه في مهاجمته لبيكاسو الذي أفسد الفنّ لأنه أصرّ على تأطيره بمصطلحٍ تعليميٍّ في ذهابه نحو المدرسة التكعيبيّة، فالفنّ، من وجهة نظر جياكومتي، عدمٌ قبل أن يكون حياةً، وهل ثمة مدارس للعدم سوى الفناء؟ كذلك رفض دعوة السرياليين بأنه واحدٌ منهم، متبنيًا ممارسة الفنّ بمنأىً عن الاتجاهات، وبشأن نزعته التدميريّة يكتب جان جينيه بأنّ فنّ جياكومتي مقدّمٌ لجمهور الموتى، فمن غير المعقول أن يحتفي الأحياء بالموت.

يبدو لي أنه بالحفر على ترسيخ هكذا أعمال، أراد أن يعين الإنسان على إزالة القماشة عن تماثيله الوجوديّة التي يسعى بمكرٍ منه إلى التغاضي عن نسخته الأصل. وحسب فهمنا لجوانيّة أعمال جياكومتي فأن النحت لديه محاولة في إزاحة الستارة عن كواليس الموت واللاجدوى، ويسند رؤيتنا هذه ما قاله جياكومتي لجينيه :أنّه كان يفكر في أن يصوغ تمثالًا ويدفنه، ويحق لنا التساؤل مع جينيه: هل كان دفن التمثال يعني اقتراحه على الموتى؟ ربّما الموت من وجهة نظره هو موعدٌ لمعرضٍّ فنيٍّ يقام تحت التراب، أو هو فعلٌ احترازيٌ يقوم به الفنان لإدامة تماثيله، وللحفاظ عليها من التفسخ اللا إنساني، يعني أن الموت هو انتقال تماثيل بشرية من عالمٍ إلى عالمٍ آخر أكثر رحابة وتأمل.

جياكومتي فنانٌ كهفيٌّ، يأتي للعمل الفنيّ من الذات الغامضة، يقعّر مرآة الهشاشة بسؤالٍ عن الرّوح الباصرةٍ التي تقطن جسد اللاشيء

لقد حرّر جياكومتي النحت من سلطة سيمتريّة النموذج، فتقاطع مع ثقافة النسب، والمقاسات المعتادة حيث اضطلع بمهمة رسم ونحت زمن الكائن وليس شكله، فالأخير توافقيٌّ والفنان الرائي مهمته اصطياد الإشكالي، ويتوافق هذا ورأي الكاتب فاروق يوسف بأننا نخون جياكومتي لو فكّرنا بالتقنيّة، ذلك لأنّ العقل هو الفرن  التقنيّ، بينما يشتغل جياكومتي بحواسه، وأيّة مراعاةٍ للعقل لدى شريد حاناتٍ وبيوتٍ داعرةٍ، بعبارةٍ أدّق أنّه كان ينحت استجابةً لاهتزازاتٍ تنتابه دافعةً إيّاه نحو اهتزازاتٍ تغذّيه بأشكالٍ تسكنه، جاعلًا منها أرشيفًا بصريًّا لسيرته الذاتيّة.

اقرأ/ي أيضًا: شتيمة دوشامب

إنّ جياكومتي فنانٌ كهفيٌّ، يأتي للعمل الفنيّ من الذات الغامضة، يقعّر مرآة الهشاشة بسؤالٍ عن الرّوح الباصرةٍ التي تقطن جسد اللاشيء، مندفعًا في أزمنة الخوف والتّلاشي، وهذا ما تستظهره حركات مخلوقاته وهي مسرعةً نحو انعكاسها الأنطولوجي هناك بعيدًا في أقاصي عزلته، إنّ المبالغة في طول الأطراف السّفليّة إشارةٌ جليّةٌ لطغيان زمن اللا إنسانيّ، فتبدو للناظر وكأنها تستبق الزمن، لكنّ العكس هو الصحيح، إذ بهذه الاستطالة تفصح عن عجزها،وأنّها مخلوقاتٌ غارقةٌ في الكسل الّذي هو بالأساس إدانةٌ للزمن، فالسقوط هو النتيجة المتوقعة لراكضي الهواء؟

وكما تفرّد في خلق كلابه الخاصة النّابحة بالفراغ على زحمة ما يواجهها من أهوالٍ، انهمك جياكومتي في إطعام وجوه مخلوقاته من ملامحه الأسطوريّة، فوجهه يشي بحديثٍ مطوّلٍ يقيمه مع الموتى طوال الوقت، فعند النّظر إليه تشعر وكأنّك تستقرئ ذاكرة الموت نفسه في ذلك الوجه المنسحب إلى مغارة الرّوح بصرامةٍ، وحتّى عندما يحدث مخلوقاته يتبدّى الحسّ الأوديبي من تلك التحديقة الناجمة عن بصيرةٍ مستنفرةٍ بالعدم، كأنّهما يعاتبان بعضهما على ذنبٍ قد اقترف من قبلهما، فيشتبك اللحم بعجينة الجّصّ، ويذهب كلٌّ منهما لالتهام الآخر، كأنهما في طقسٍ كانيباليٍّ، آنذاك يكتشف جياكومتي بأنّ النّحت هو فنّ مضغ الإنسان، وتحويله إلى عصيدةٍ، ثم دلقها في صحن القدر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

معرض "محمد ديب والفن".. الروائي الذي كان فنانًا

بارنيت نيومان.. تجفيف الزمن