18-يناير-2016

عبد دوماني/أ.ف.ب/getty

عندما تقرأ الصفحة الأولى من رواية "الغريب" لألبير كامو، ستنسى أن بين يديك كتابًا من ورق، بل ستشعر أنك جالس على طاولة مع شخص لم ينم منذ يومين، واضعًا يده على خده ويبدو على ملامحه الكسل، وهو يقول: اليوم، ماتت أمي. أو ربما ماتت أمس، لست أدري. لقد تلقيت برقية من المأوى تقول: "الوالدة توفّيت. الدفن غدًا، احتراماتنا" . إن ذلك لا يعني شيئًا، ربما كان ذلك أمس.

ألبير كامو: استطاعت الحرب هدم المدينة، ولم تستطع أن تهدم جدارًا واحدًا في قلبي

غالبًا ما تأتي العبثية بعد أن يتعب الشخص أو الفنان من ذلك الروتين الفكري وحتى الحياتي. فالفكر طبعًا يتأثر بالبيئة المحيطة والظروف التي يمر بها كل فنان، حيث يجد الفنان نفسه متعبًا من نقل الأشياء كما هي في الواقع لأن الواقع غالبًا ما يفرض نفسه وغالبًا ما يأتي من البيئة المحيطة والظروف، بينما تنبع العبثية من داخلنا لتكون بذلك إعادة تشكيل لصورة الواقع الذي استوطن في أنفسنا وجعل منا كائنات تقف على الحافة، وعند أول العثرات تقع.

نحن كسوريين لا ندري ما علاقة ما يدور حولنا بألبير كامو وروايته الغريب، نعم نحن غرباء لكننا لسنا فرنسيين ولسنا فلاسفة، غير أننا يجب أن نفكر جميعنا بموتانا كما فكر ألبير كامو أو بالأحرى شخصية رواية الغريب بموت أمه، حيث علينا أن نجيب على أسئلة الغرباء فيما يتعلق بموتانا بأنهم، اليوم ماتوا أو ربما بالأمس. ويجب أن نضيف، أن الأمر لم يعد يهمنا، ربما نرتاح هكذا، ربما ننسى.

منذ خمس سنوات في مطلع العام 2011 بدأت الأزمة في سوريا، تلك الأزمة التي ولدت حربًا دامية، صار فيها الموت خبرًا يوميًا مثل أي خبر عادي كنا نسمعه، عشرات بل مئات القتلى يوميًا، وقد يبدو المشهد من الخارج أن هنالك حربًا تدور في تلك المدينة ومجزرة في المدينة الأخرى والقتلى فقط يحسبون بالأرقام، إلا أنه فعليًا وراء كل شخص يموت عائلة وأقرباء وأصدقاء يفتقدونه ويترك فيهم صدمة وحزن يصعب التخلص منه.

من هنا يمكننا الدخول في أزقة وشوارع سوريا الفارغة إلا من بوابة الحزن والصدمة الجماعية، حيث لا يمكن تصديق الأمر إذا فكرنا فيه بالطريقة التقليدية لأننا لن نتحمل الصدمة بشكلها الحقيقي، فإن العبثية هنا ستفرض نفسها ليس على الفن فقط بل على كل شيء، فكيف لأم فقدت ثلاثة من أولادها أن تظل على نفس النهج في طريقة التفكير؟ طبعًا لن تستطيع فإنها إن ظلت مشاعرها كما هي إما أن تفقد صوابها وإما أن تموت حزنًا، أي أنه عليها أن تؤمن بأن هنالك حياة أخرى وقد رحل أولادها إليها، وأن الموت أمر سهل فقط يحتاج أن نفكر به مع القليل من التجريد والعبثية.

الحزن ليس بالضرورة غياب الفرح، لأن الفرح قضية والحزن قضية، وغياب الفرح قضية أخرى، لأننا غالبًا ما نشعر بالفراغ إذا غاب عنا الفرح والحزن معًا فليس لدينا ما نفكر به أو نمارسه حينها، وهذا ما يدفع الكثير من السوريين إما إلى الهجرة أو الالتحاق بطرف معين من الأطراف المتنازعة على الأرض، وذلك لسد الفراغ الذي جاء ما بعد الحزن والصدمة، ففي بادئ الأمر كان الحس الثوري هو الذي يملأ النفوس ثم بعد أن كثر الموت في كل مكان جاءت الصدمة ثم الحزن، ولأن المرء لا يمكنه البقاء على حال واحد، سيبدأ تلقائيًا بالبحث عن مخرج، وسيكون الأمر لدى الأشخاص الذين يتعاطون نوعًا من أنواع الفنون، أخف وطأة من أولئك الناس الذين كانوا يعيشون روتينًا يوميًا في بلادهم أي الأكل والنوم والعمل والمشاوير والأقارب والأصدقاء...إلخ.

 ليس لأن الفن فعل تفريغ عن النفس، بل لأن الفنان غالبًا ما يشكل له الفن عالمًا خاصًا يهرب إليه كلما شعر بضيق في عالم الواقع. بينما يظل الإنسان العادي أمام الواقع طيلة عمره، ويظل يرى أحزانه دون أي حجاب بينه وبينها، حيث يستبدل الفنان ما يفعله الإنسان الواقعي، من ندب وتمزيق ثياب، وقد يصل الأمر أحيانًا إلى الجنون أو الانتحار، بما يقوله أو يفعله وهو مختبئ في عالمه الخاص، فقد يقرأ الواقع بلغة الشعر، أو يراقب الأحداث من وراء لوحة، ولا عجب أن التاريخ الحديث شهد الكثير من الفنانين يراقصون أحزانهم على خشبة المسرح أمام الجمهور.

ليس الحل ما بعد الحرب أن نقتل الذاكرة الجماعية، لأن الأمر أولًا شبه مستحيل وثانيًا لن يتطور شعب ليس لديه ذاكرة، وبالرجوع إلى رواية الغريب مرة أخرى "ثم سمعت صوتًا يقرأ شيئًا في القاعة. وحين دُقّ الجرس مرةً أخرى، وفتح باب الغرفة الصغيرة، صعد إليَّ صمتُ القاعة، ذلك الصمت، وذلك الشعور الفريد، الذي داخلني حين لاحظتُ أن الصحافي أشاح بعينيه، لم أنظر في اتجاه ماري، ولم يتح لي الوقت لذلك، لأن الرئيس قال لي بلهجة غريبة، إن رأسي سيقطع في ساحة عامة، باسم الشعب الفرنسي".

يجد الفنان نفسه متعبًا من نقل الأشياء كما هي في الواقع لأن الواقع غالبًا ما يفرض نفسه 

نعم لن ينسى السوريون أن رؤسهم جميعًا قطعت، في الشوارع والساحات العامة باسم الحرية، التي لم يعرفونها يومًا، تمامًا كما كانت شخصية الغريب في الرواية والذي كان يجهل سبب قطع رأسه باسم الشعب الفرنسي.

ربما يكون الحل هو أن نعيد تشكيل تلك الذاكرة من الداخل وربما يكون الفن هو من أكثر الأشياء التي يمكننا أن نقتل به مرارة الواقع وقبحه، فلو مررت على جدار مهدّم أول مرة وهو فارغ، سيستفزك منظره، بينما تمر عليه مرة أخرى وتجد أحدهم قد كتب عليه: "استطاعت الحرب هدم المدينة، ولم تستطع أن تهدم جدارًا واحدًا في قلبي".

ستتأكد حينها أن أحدًا داخله ما زال عامرًا رغم كل هذا الدمار، ويمكننا من خلال هؤلاء الأشخاص الذين ظلت مخيلاتهم سليمة خالية من تشوهات الحرب أن نبني وطنًا جديدًا بلا موت.

اقرأ/ي أيضًا:
من اليرموك إلى مضايا.. الإعدام جوعًا
يوميات الكامب الهولندي.. حنينُ إلى الشرق