06-أبريل-2022
استيقظنا مرة في الجنة

الشاعر نجوان درويش

يقيم الشاعر الفلسطينيّ نجوان درويش في منطقة شعرية محرّرة من ميراث شعريّ باهظ، أرهق الشِّعريّة الفلسطينيّة طويلًا، على أهميّة دوره التاريخيّ وأثره العلاجيّ العميق على الذات الجمعيّة المنكوبة. يجوب تلك الأرض العابرة للحدود، أرض الشعر الصافي، أرض النقصان والخذلان، أرض الأشواق التي لا تكبّلها العناوين الكبيرة، أرض الرحمة الجارحة. "الأرض ثلاثة مسامير والرحمة مطرقة" يقول في إحدى قصائد الباب الثاني: "نوم في غزّة".

جنّة نجوان درويش، التي تدقّ نصوصها وأحلامها وكوابيسها على أبواب المجموعة السبع، هي جنّة معجونة بالتفاصيل الأرضيّة ومفتوحة على الزمن الإنسانيّ كلّه

يكتنز عنوان مجموعته الشعرية "استيقظنا مرّةً في الجنّة"، التي صدرت بنُسختِها العربيّة عام 2020 عن دار "الفيل" و"المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر"، (نسخة إيطاليّة بترجمة الشاعر والأستاذ الجامعيّ سيموني سيبيليو صدرت عام 2021 عن دار Ponte del sale) الإشعاع الرمزيّ والجماليّ والوجوديّ لمدن الساحل الفلسطينيّ، الساحل الذي لم يفقد قلبَه تمامًا يوم جنّ بحرُهُ وبُتِرَ جسدُهُ وانتزعت أحشاؤه. الساحل الذي ما زال يقاوم أخطبوط المحو الاستعماري. الساحل الذي يحضر شعرًا وثيمةً وكنايةً ويغيب أحيانًا ويتعثر كمشروع ثقافيّ وسياسيّ.

جنّة نجوان درويش، التي تدقّ نصوصها وأحلامها وكوابيسها على أبواب المجموعة السبع، هي جنّة معجونة بالتفاصيل الأرضيّة ومفتوحة على الزمن الإنسانيّ كلّه، بحركته وانكساراته وانتصاراته ومفارقاته. يقول في قصيدته "جنّة II": "حتّى في الجنّة كنت أفكّر بالأرض".

نجوان درويش هو صوت شعريّ شديد النضارة والعراقة، يولد حديثًا وكلاسيكيًّا في الآن ذاته، معتمًا ومشعًّا كسؤال لا ينتهي ومحتشدًا باستبصارات لا حدّ لشساعتها واشتباكها الشجيّ الشجاع مع الذات والآخر، ومع الحياة والموت. يكتب بنبرةٍ متشائلة، نبرة تختزل بفنيّة عالية وعارية البعد المأساويّ الساخر المقاوم في الشرط الإنساني الذي تمثّل فلسطين تكثيفًا عنيفًا لمأزقه ولعبثيّته من جهة، ولأفقه الحرّ ولاحتمالات نجاته من جهة أخرى.

يشقّ شعرُهُ طريقَه الفريد والوحيد في مشهد سياسيّ وثقافيّ ملتبَس متجنبًا باقتدار لافت السقوط الشائع شعريًّا في الاحتفائيّة الفجّة، أو في الفجائعيّة المتلذّذة بالصدمة الفلسطينيّة.

ربّما كانت قصيدة "قدس"، بدون "الـ" التعريف، نموذجًا لهذه الكتابة العارية والساخرة دونما قسوة، كتابة المدينة كمدينة مستحيلة، كأسطورة من وجع تفترس سكّانها وتحجّرهم. لا حياة ممكنة معها، أو بدونها. "نحن أضحياتك" يقول، "أسمّيك ميدوزا"... "عندما أغادرك أتحجّر وعندما أعود إليك أتحجّر".

في قصيدته الباهرة "بطاقة هوية"، التي تفتتح المجموعة وتضيئها بقوة وبرقّة، ينفض الغبار الأيديولوجيّ عن هويّة العربيّ في أيامنا، ويتتبع روافدها ويحصي، بحبّ وألم، غنائمها وهزائمها الكبرى ويعيدها إلى ما كانت ربّما عليه يومًا قبل أن ينقضّ عليها الاستعمار ويفتّتها ويسطو على ثرواتها وثوراتها: "وبأقلَّ من هذا لا يكون المرءُ عربيًّا".

بأقلّ من هذا الشجن والفرح والشبق الإنساني، بأقلّ من هذا الالم والمقاومة والحريّة، لا يكون المرء عربيًا. ولا يكون المرء شاعرًا.


من المجموعة 

 

 قدس 

I
وَقَفْنا على الجَبَل
لنَرْفَعَ لكِ الأُضْحِيَة 
وحينَ رأَينا أَيدينا تَرْتَفِعُ فارغةً
عَرَفْنا أَنّنا أُضحياتُك.
*

اترُكي الفاني يَسْقُطُ بَيْنَ يَديْ قَرينِه الفاني
أَيّتُها الباقية
ما شَأنُكِ بهذا الحَجيجِ المُرْتَبِكِ مِنَ الزّائلين؟ 
*
أَيدينا تَرْتَفِعُ فارغةً
نحنُ أُضحياتُك.

II
عِندما أُغادِرُكِ أَتَحَجَّرُ 
وعِندما أَعودُ إِليكِ أَتَحَجَّرُ 

أُسَمّيكِ ميدوزا 
أُسَمّيكِ الأُختَ الكبرى لِسَدَومَ وعَمُورَةَ 
أَيّتُها الجُرْنُ الصَّغيرُ الذي أَحْرَقَ روما

القتلى يَزْجِلونَ على التِّلال 
والعُصاةُ عاتِبونَ على رُواةِ قِصَّتِهم 
وأَنا أَتركُ البَحْرَ ورائي وأَعودُ إليكِ 
أَعودُ 
بهذا النَّهرِ الصَّغيرِ الذي يَصُبُّ في يَأسِكِ

أَسْمَعُ المُقْرِئينَ والمُكَفِّنينَ وغُبارَ المُعَزّين 
لَمْ أَبلغ الثّلاثين ودَفَنْتِني مَرَّاتٍ كثيرة 
وفي كلِّ مرّةٍ 
كُنْتُ أَخْرُجُ مِنَ التُّرابِ لأَجلِك 

فليذهب إِلى الجحيم مُبَجِّلوكِ 
بائعو تَذكارات أَلَمِكِ 
كلُّ الذينَ يَقِفون معي الآنَ في الصّورةِ

أُسَمّيكِ ميدوزا 
أُسَمّيكِ الأُخْتَ الكبرى لِسَدَومَ وعَمُورَةَ 
أَيّتُها الجُرْنُ الصَّغيرُ الذي ما زالَ يَحْتَرِق 

عِندما أُغادِرُكِ أَتَحَجَّرُ 
وعِندما أَعودُ إِليكِ أَتَحَجَّرُ.

 

-- 

سيكون العالم طيّباً

يا بُنيّ إِنّني نائمٌ في قاعِ النَّهرِ ومُصْغٍ لكَ
وأَنتَ تَعْبُر الجِسْر
مِنْ أَجْلِكَ أَيضاً أَنامُ في اللُّغة 
وكُلَّما تَكَلَّمْتَ أَيقَظْتَني 
سَيَكونُ العالَمُ طَيِّباً 
ولا شيءَ سِوى الحُبِّ الذي أَورَثْتُك إِيّاه
سَيُثْقِلُ كَتِفَك
قاسِمْهُ و"قَسِّم نَفْسَكَ في جُسومٍ كثيرة"
مِثْلَ عُرْوة بن الوَرْد 
(أَنتَ أَيضاً لا أَبَ لك سِوى الوَرْد). 

*
يا بُنيّ كانت مُدُناً مُسَنَّنَةً 
وكانَ هذا كُلُّه سخيفاً 
تعالَ نَذْهَب إِلى الغابةِ 
اِقْفِزْ على كَتِفي وتَعالَ نَرجِع إِلى أَصْلِنا 
تَعالَ نَضْحَك 
ونَغْسِل هذه الأَنهار بالقَهْقَهات 
في الغابةِ لا أَحَدَ سيُحاسِبُنا 
على هذا الضَّحِك.
*
يا بُنيّ افتَقَدْتُكَ عَشِيَّةَ العيدِ الكبير 
كُنْتَ سَتُحِبُّ هذه القَناديل
وهي تَتَمايَلُ في المَدائحِ النَّبويِّةِ 
كُنْتُ سَأَستَيْقِظُ فَجْراً
لنَسْمَعَ التَّواشيح 
أَمِنْ خَوْفٍ؟ أَمِنْ فَرَحٍ تَشُدُّ على يدي؟
لا تَقْلَق، لَنْ نَضيعَ هُنا...

استَيْقَظْتُ مُبَكِّراً مِنْ أَجْلِك 
وتَصالحتُ مع العيد. 
*
مِنْ وراءِ السَّنوات
مِنْ وراءِ البُلدانِ وما تُخبِّئهُ الخرائطُ  
أَحرُسُكَ
وتَحْرُسُني 

أَنا نائمٌ في قاعِ النَّهر ومُصْغٍ 
لكَ وأَنتَ تَعْبُر.

 

-- 

بطاقة هُويّة

 

رَغْمَ أَنَّ الكرديَّ مَشْهورٌ بِقَساوةِ الرّأس ـ كما يَتَنَدَّرُ الأَصدقاء ـ إِلّا أَنّني كُنْتُ أَرقَّ مِنْ نَسْمةِ الصَّيف وأَنا أَحْتَضِنُ إِخوتي في أَربعِ جِهاتِ الأَرض. 

وكُنْتُ الأَرمنيَّ الذي لَمْ يُصَدِّق الدُّموع تحت أَجفانِ ثَلْجِ التّاريخ

وهي تُغطّي المَقتولينَ والقَتَلَة،

أَكثيرٌ بَعْدَ ما حَصَل أَنْ أُسْقِط مَخطوطةَ شِعْري في الوَحْل؟

 

وفي جميع الأَحوال كُنْتُ سوريّاً مِنْ بيت لحم أَرفعُ مخطوطةَ أَخي الأَرمنيّ 

وتُركيّاً مِنْ قونية يَدخُلُ الآن مِنْ باب دمشق.

وقَبْلَ قليلٍ وصلتُ بيادِرَ "وادي السِّيْر" واستقبَلني النَّسيمُ الذي وحدَهُ يَعرِفُ معنى أَنْ يأتيَ المَرْءُ مِنْ جِبال القَفْقاس مَصحوباً بكرامَتِه وعِظامِ أَهْلِه. وحين وطِئتُ ترابَ الجزائر لأَوّل مرَّةٍ، لَمْ أَشُكَّ للحظةٍ أَنّي لَسْتُ أَمازيغيّاً. 

في كلِّ مكانٍ ذهبتُ إليه ظَنّوني عِراقيّاً 

وكانَ ظنُّهم في مَكانِه. 

وطالمَا حَسِبْتُ نَفْسِي مِصريّاً عاشَ وماتَ مِراراً بجانبِ النّيل مع أَسلافِهِ الأَفارِقة. 

وقَبْلَ كلِّ شيء كُنْتُ آراميّاً. ولا غَرْوَ أَنَّ أَخوالي على الأَقل مِنْ بيزَنْطَة وأَنّني كُنْتُ الصَّبيَّ الحِجازيَّ الذي نَالَ حَلوى الدَّلال مِنْ صفرونيوس وعُمَر في فَتْحِ بَيْتِ المَقْدِس.

 

لَيْسَ مِنْ مَكانٍ قاوَمَ غُزاتَهُ إِلّا وكُنْتُ مِنْ أَهْلِهِ، 

وما مِنْ إِنسانٍ حُرّ لا تَجْمَعُني به قَرابَة، وما مِنْ شَجَرةٍ أَو غَيمةٍ لَيْسَ لها أَفضالٌ عليّ. 

كما أَنَّ ازدرائي للصهاينة لَنْ يَمْنَعَني مِنَ القَول إِنّني كُنْتُ يهوديّاً طُرِدَ مِنَ الأَندلس، وما زِلْتُ أَنسِجُ المَعْنى مِنْ ضَوْءِ ذلك الغُروب.   

 

في بيتي نافِذةٌ مفتوحةٌ على اليونان وأَيقونةٌ تُشير إِلى روسيا

ورائحةُ طِيبٍ أَبديٍّ تَهُبُّ مِنَ الحِجاز 

ومِرْآةٌ ما إِنْ أَقِفُ أَمامَها إِلّا وأَراني أَتَدَبَّرُ الرَّبيعَ في حدائق شيراز وأَصْفَهان وبُخارى.

 

وبأَقلَّ مِنْ هذا لا يَكونُ المَرْءُ عَرَبيّاً.