في مطلع حياتي، كان العالم يعيش تحت تأثير حدث يُعتبر آنذاك الأهم والأبرز، وهو سقوط الاتحاد السوفييتي. ومع سقوطه، تهاوت الأحزاب الشيوعية، وقيل يومها إن حلم الثورة قد انتهى، فلا ثورة بدون شيوعية.
كلمة "الثورة" في ذلك الوقت بدأت تفقد بريقها، بعد أن استأثر بها المنظرون اليساريون وربطوها بالشيوعية لسنوات طويلة. وإذ بالشيوعية تتهاوى بشكل دراماتيكي، ومع هذا التهاوي، تحوّل تشي غيفارا إلى مجرد صورة تُطبع على القمصان (T-shirts)، حتى أن صورته وصلت إلى قلب واشنطن، عاصمة الرأسمالية والإمبريالية.
سمعت كثيرًا من الأحاديث والنقاشات المحتدمة من سياسيين سوريين قدامى "نجوا بأعجوبة" من معتقلات حافظ الأسد وابنه من بعده. تمحورت تلك الأحاديث حول ضرورة الإصلاح من الأعلى، وعدم إمكانية اندلاع ثورة
في الحقيقة، لم تكن الشيوعية وحدها التي تراجعت؛ فقد تراجع قبلها الفكر القومي العربي، بعدما ارتبط بالدكتاتوريات العسكرية التي رفعت شعاراته، بدءًا من عبد الناصر وصولًا إلى صدام حسين وحافظ الأسد البعثيين. وفي تلك الفترة، وحتى نهاية العقد الأول من هذا القرن، كان الأمل يتضاءل فيما يُسمى "الثورة".
سمعت كثيرًا من الأحاديث والنقاشات المحتدمة من سياسيين سوريين قدامى "نجوا بأعجوبة" من معتقلات حافظ الأسد وابنه من بعده. تمحورت تلك الأحاديث حول ضرورة الإصلاح من الأعلى، وعدم إمكانية اندلاع ثورة في ظل غياب الأحزاب والأيديولوجيات الثورية. وكانت جملة أحدهم ترنّ دائمًا في رأسي: "انتهى حلم الثورة".
اليوم، انتصرت الثورة السورية، وقبلها انتصرت ثورات كثيرة، سواء في الدول العربية أو في دول أوروبا الشرقية. جميعها انتصرت دون أن تكون شيوعية وتستند على قواعد لينين للعمل الثوري.
بالنسبة لي، فإن عدم ارتباط هذه الثورات بالشيوعية أو بالقومية أمر مطمئن. فهو على الأقل يضمن غياب "الرفاق" الذين يتحولون إلى "الرئيس المفدّى"، ولن نشهد ثورات ثقافية أو علمية أو فنية تُحارب "الغزو الثقافي الغربي" بقتلنا وسجننا كما فعل ماو تسي تونغ في الصين. وهذا أمر يستحق تنهيدة ارتياح كبيرة.
ورغم غياب الحزب الثوري والطليعة الثورية والمنظرين، كانت الثورة السورية مكتملة الأركان. عمّدها السوريون بدمائهم وبرحلات الشقاء في البراري والغابات، هربًا من أجهزة الأمن ومن العصابات التي امتهنت "اصطياد اللاجئين السوريين لقتلهم". ولعلّ كثيرًا منهم يحتفظون ببعض رؤوسنا معلقة على جدران بيوتهم.
ولا أنسى أن كثيرًا من سياسيي أوروبا وأميركا يدينون لنا بالفضل في شهرتهم ونجوميتهم. فقد أصبحوا رؤساء دول وحكومات، ونجوم "يوتيوب" ولقاءات تلفزيونية، عبر شيطنتنا ووسمنا بالإرهاب، عبر بثّ آرائهم الدموية بكل راحة ضمير تحت شعار "هم (أي نحن) لا يشبهونا" رغم أني لم أدرك يومًا ما معنى هذه الـ"نا".
حسنًا، إذن، انتصرت الثورة السورية. وفي هذه الأيام، يتقاطر الوزراء وتكثر المقالات والتحليلات والتصريحات السياسية. واكتشفنا فجأة أن كثيرين من هؤلاء "الصحفيين والمحللين والسياسيين"، رغم كرههم لبشار الأسد، إلا أن اهتمامهم كان منصبًا في مكان آخر.
يأتون غير مهتمين بما كابدناه، ولا بمدننا المدمرة، ولا بدماء شهدائنا، بقدر اهتمامهم بعلاقات الدولة الجديدة الخارجية، وكيف سيكون شكل الحكم. تساؤلات أشبه بالإملاءات.
وبما أننا نجبر أنفسنا على استمرار الفرح بسقوط الأسد، فإننا نتآمر معهم بصمت. نرحب بهم ونفرح باعترافهم السريع بانتصار ثورتنا. لكننا بدأنا نستيقظ ببطء من نشوة الفرح، لنجد أنفسنا أمام تساؤل كبير: "متى يحين دورنا لنحتفل بثورتنا ونقرر شكل حكومتنا الجديدة؟".
ربما نريد أن نقرر نحن شرعية حكومتنا، دون انتظار حماية المجتمع الدولي ورعاية الدول الجارة أو العدوة. وربما نريد أكثر من ذلك، كأن نرفض نفوذ رفاق السلاح الذين خطفوا المناصب الوزارية، وأن نرفض أيضًا الرفيق الحزبي والمعارك المقدسة وتعبيرات الجهاد والحملات الدعوية. بالطبع، ربما نريد أن نكون بلا أمة واحدة، ولا اشتراكية زائفة، أو علمانية خادعة.
لازلت أذكر اللحظات الأولى التي أُعلن فيها فرار بشار الأسد من سوريا وسقوط النظام. داهمني شعور طاغٍ بالفرح لم أعرفه سابقًا. لكنني أدركت أيضًا أنه من الطبيعي ألا أتعرف على ذلك الشعور؛ فلم أكن أعرف قبل سقوط النظام معنى تعبير "الوطن". عندما خرجنا ضد النظام، لم نكن قد رسمنا مشهد السقوط في خيالنا، ولا صورة للوطن المنشود.
رغم فرحي الكبير بتحرير سوريا، إلا أنني أتعامل مع فرحتي بحذر. أريد اليوم أن أكون حرّة تمامًا بالتفكير في وطني، بعد أن تعرفت على معنى أن يكون لدي وطن.