24-ديسمبر-2018

مقطع من لوحة لـ رشا خير الدين/ العراق

منذ كنت طفلًا وأنا أرى والدتي وهي تكتب الشعر على ورق مقوى، وتلصقه على جدران غرفتها الموحشة حتى بدت كأنها لوحة إعلانات مدرسية، وكنت غالبًا ما أصيخ السمع من خلال تلك الجدران حينما تزورها بعض نسوة الحي، وقد سألنها ذات مرة عن كل تلك الأوراق التي تغص بها الغرفة، وعن ماهية الشعر الذي تكتبه، فأجابت على تساؤلاتهن بكلمات مقتضبة، وقالت لهن ان الشعر وصال وضمادات قلب ورئة ثالثة، وختمت إجابتها بأن الشعر يحي ويميت مما أثار امتعاضهن، فشككن بسلامة عقلها ولم يعاودن زيارتها بعد ذلك أبدًا!

سألتها ذات مرة كيف يتأتى لكِ أنْ تكتبي الشعر؟ وهل يخلق الله بعض الناس شعراء دون آخرين؟ فأجابتني على أسئلتي اللجوجة تلك بعدة إجابات هلامية مختلفة، لكنها في النهاية استقرت على إجابة واحدة وقالت إن هنالك نبيًا يسمى نبي الشعر، يأتي إلى بعض الناس على أشكال مختلفة يترك بعض كلماته عندهم، فيعيدوا تشكيلها بعد أن تمتزج بأرواحهم لتخرج قصيدة تناسب حالتهم، وقد أحالني جواب أمي ذلك إلى سؤال آخر فسألتها وأين أجد نبي الشعر هذا؟ أريد أن أكتب قصيدة وأتباهى بها أمام زملائي وأساتذتي، فأشارت بسبابتها إلى سطح المنزل وقالت اذهب هناك ولوّح له بيديك دائمًا فلربما يزورك يومًا ما.

كانت الحرب قائمة ولَم تمضِ سنةٌ على استلام أمي لرفات أخيها التي جيء به إليها (بوصفها الوريثة الوحيدة له) بواسطة كيس صغير بعد أن أحالته الحرب الى رماد. صعدتُ إلى السطح وصرتُ ألوِّحُ لنبي الشعر حتى يُنْزِلَ، نقمتُ عليه بداخلي، استمر صعودي الى السطح عدة مرات صباحًا ومساءً، وأخيرًا كتبت له رسالة أتوسل فيها إليه أنْ يحضر، وقُمْتُ بإلصاقها على شرفة السطح.

وفي إحدى المرّات، وإذ أنا أنظرُ إلى عيني أمي الغائرتين بعد أن رفعت رأسها من على طاولة الكتابة الخشبية، وكانت النافذة مفتوحة على مصراعيها ورائحة البخور تملأ المكان، وهي لم تزل تكتب على ضوء الشموع كطقس خاص تتخذه كل ليلة، وتنظر الى جدران الغرفة حيث الصور التي تزينها شرائط سوداء في زواياها، وتكتب وكأنهم يعترفون إليها بأسرار لم تعرفها بعد، فتقوم بتدوينها على الأوراق التي أمامها، وحينما انتهت أخبرتها عن عدم مجيء نبي الشعر، فقالت بصوت متهدج لا تيأس إنه سيأتي حتمًا وبأشكالٍ مختلفة. وصارت تنظر إلى صورة أخيها الذي لم تحفظ ذاكرتي عنه شيئًا.

في اليوم التالي، صعدت الى السطح منذ أولى التماعات الفجر ودهشت حينما لم أجد الرسالة، فبقيت جالسًا لساعات آمِلًا مجيئه، وتذكرت كلمات أمي التي قالت بأنه يأتي بأشكال مختلفة، فأحضرتُ أوراقي وأقلامًا عِدّة استعدادًا لكتابة ما سيبثهُ إليَّ من كلماتٍ، وفي تلك الأثناء سَمِعْتُ طرقًا على الباب، فنظرت من شرفة السطح وقد خرجت أمي إلى باحة المنزل، وعندما فَتَحَتْ الباب وَجَمَتْ في مكانها كجذع نخلة، وبعد أن ملأتْ الجَلَبَةُ أرجاءَ المكان، جِلْتُ بِبَصري يمينًا ويسارًا ورأيتُ جنودًا يرتدون الملابس الخاكية، فتدفقت مشاعر الحزن وملأتْ روحي دون أن أعرف سبب مجيئهم بعد. وعندها ألَحَّتْ عليَّ رغبة جارفة بالكتابة، فلم أعد أتحسس ما الذي يجري حولي. جلست وبدأت أكتب وكأنّي قد أخذتُ إجازةً من عالم الوجود لدقائقَ، وبعد أن عرفت ان نبي الشعر قد أتى أخيرًا، وبدأ يدس كلماته في روحي (ساعة لم تزل تعمل في معصم مبتور، رسالة حب مبللة بالدم، بزة عسكرية متخشبة، شظايا، أنفاس أخيرة، أعضاء مجهولة الهوية، أكفان ممزقة..). أعدتُ تشكيلَ الكلماتِ واكتملتْ القصيدة، وقد استجابت لها انفعالات نفسي.

وما أن عدت إلى الواقع الذي حولي حتى سمعت أحد الجنود يصيح بصوت مرتفع مخاطبًا أمي هل أنتِ زوجة إبراهيم؟ ويكرر وهو يطرق الباب بقوة، ولَم تُزل أمي واقفةً في مكانها وهي تنظر إليه، وكأنها تحولت إلى تمثال من الرخام.

حينها عرفت أن نبي الشعر هذا لا يأتي إلى الإنسان إلا بعد أن يَقْضِمَ القدرُ شيئًا من روحِه، كأنْ يرى والده وهو عائد من الحرب بواسطة تابوت.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

لوحة الأشباح

مشاهد تصلح لقصص قصيرة