08-سبتمبر-2017

من فيلم الحالة المحيرة لبنجامين بوتون

جرت عادة الناس ألا تعرف متى بدأت حالة ما بالضبط؛ يعني: متى بدأت تكره زوجتك؟ متى بدأت نوبات الصداع تنتابك؟ متى بدأ شغفك بالكلاسيكيات ينطفئ؟ متى بدأت تفضل الطعام المشوي على المسلوق؟ إلى آخره من صنوف الحالات التي تعتري الناس في حيواتهم، وإن ظهرت بعض الواجهات السببية التي عادة ما تكون تبريرية أو ثانوية هنا وهناك، ذلك أن المعظم يفضّل التعميم والإطارات الفضفاضة والصور الكبيرة، حيث تظهر المسببات ضبابية وكثيرة الاحتمالات وقابلة للتعديل والتحوير دونما مساءلة أو تشكيك.

أما حالتك فأنت تعرفها جيدًا وتعرف أنها بدأت منذ يوم ولدت تمامًا، أو فلنقل على سبيل الدقة منذ وجدت بصدفة غريبة في هذه الحياة. وهذه المرأة الممددة أمامك فاتحة ساقيها وتعتصر البكاء والتوسل هي هي لا مجال لشك أو إعادة تفكير أنها المرأة التي تحملك وأنت الطبيب المشرف على ولادتها. الطفل الذي تحمله هو أنت. إنها النبوءة ولدت معك واليوم تولد بين يديك "ستلد نفسك يا حنا إنه قدرك".

يا الله يا حنا كم من الأطفال والفروج والأوجاع لزمك لتلقى نفسك، والآن ها أنت ذا تقف بانتظارك، تتلهف لتتلفق نفسك، نفسك التي تقت إليها مرارًا وبكيت غيابها سنين طويلات.

لا شيء سيبقى بعد اليوم، وجهك الذي أرهقك، عجزك ويأسك، عنفك المثير للشفقة، أنت عنيف ومخيف عنيف إلى حد أنك كلما جربت أن تعد خرافًا لتنام ككل خلق الله خرجت من رأسك ذئاب نهشتها! ياللقرف!

كل هذا سينتهي الآن، وجه هذا العالم، وجهك. ستكون عيونك هذه التي ترى الغيم مسطحًا، ستكون عيونك لا عيون سواك. وسيكون هذا الشك الأبله في كونك أنت شكك لا شك غيرك. ربما تكره نفسك وتحاول إيذاءها وربما تجبن بعدها وتتراجع وربما، وربما وألف ربما. إنها شهوة الاحتمالات.

وخزة ذنب تعتريك، لا لأنك استنفذت عمر هذا الطفل وخياراته وعايشت هواجسه ومخاوفه وتبنيت آراءه وأفكاره فهذا كان قدرك ولعنتك أيضًا. أنت الضحية في كل هذا. أنت أكثر من يدرك صعوبة أن تعيش حياة غيرك. لا تعلم أتتخذ خياراته عنه أم أن خياراتك التي اتخذت تفرض عليك. ولا تعلم حين تشك في كل ما حولك أكنت لتكون مؤمنًا لو كنت أنت!

ولكن يعتريك الذنب لأنك لن تستطيع أن تواسي أمه بأن تخبرها أنك كنت أمينًا على حياة ابنها، وأنك استنفذتها بالزخم الذي ترتضيه الأمهات. كنت جبانًا كما تشتهي الأمهات تمامًا؛ لم تنخرط طول عمرك، عمر ابنها المديد، في مشاجرة، ولم تخالف قانونًا ولا نظامًا ولا لائحة تعليمات. لم تستخدم لفظًا بذيئًا قط وتجنبت الجنس ما استطعت، ورغم شكك حافظت على تلاوة الصلوات، كنت طيبًا وعطوفًا وذا قلب رحيم وها أنت ذا تقف بين ساقيها طبيبًا ذا سمعة طيبة. ولكن هذا لست أنت يا حنا، أنت منفتح ومنطلق وحر، ولست طيبًا أبدًا، تستبد بك نزعة لركل مؤخرات الناس جميعًا ونعتهم بأبناء الزناة. أنت صعلوك وبربري في جوهرك، وتكره ما كنت عليه طيلة حياتك، حياته، السابقة. ومن حقك الآن آن تكون أنت.

إن عمرًا من الخطيئة سينتهي الآن بين يديك، وستضحك لك أخيرًا عيون الله يا حنا، ومن يدري قد يتسنى لك أن تطلق النار على نفسك صباح الغد!

قلق خفيف يرسل كهرباءه في عمودك الفقري. لا يقين تملكه حول ما سيحدث على وجه الدقة بعد خروج الطفل. أنت أمام حدث متعدد الاحتمالات.

إما أن تظل محتفظًا بلغتك وتجاربك ومعارفك التي اكتسبتها، غير أن صحيفتك ستكون نقية وخالية بينما تسترد نفسك المجهزة بخياراتها ومفاهيمها بناء على مقارنة مع ما كنت تفعله وتشتهي خلافه وتقدم عليه لجبنك عن غيره، أو ستبنيها تباعًا وهذا احتمال.

وإما أن تتحقق فيك حال بنجامين بوتون فتعكس ساعة رملك، وتصغر كلما مر عليك زمان محتفظًا بمعارفك أو متخليًا عنها وهذا احتمال.

وإما أن يكمل عداد زمنك رحلته بينما تصيبك طفولة فكرية فتصير طفلًا في الخامسة والأربعين، وتقضي أيامك الأولى على ذمة التحقيق لأنك انقضضت فجأة على ثدي المرأة الممددة أمامك، قبل أن يتم تحويلك إلى مصح عقلي لقصور في قدراتك الذهنية تملأ حفاظاتك وتتفرس الأثداء وهذا احتمال.

لن يكون لقلقك هذا أي معنى بعد خمس دقائق فهذا قلقه هو لا أنت.

حسنًا لقد بدأ الرأس بالظهور. إلهي إنك تنزلق، ترتعد، تفتح عينيك وتبكي، ولكن... ولكن الطفل كان حيًّا يا حنا، كان أنت، ولكنه كان حيًا... الطفل حي ويبكي...

 

اقرأ/ي أيضًا:

دورة حياة العدالة

رائحة الحديد