06-يونيو-2017

نازحون سوريون يعودون إلى الجزء إلى القنيطرة بعد خروج القوات الإسرائيلية (Getty)

خمسون عامًا مرت على حقول القمح في الجولان السوري وهي بانتظار عودة فلاحيها، الذين قيل لهم حينها "أيام قليلة وتعودون إلى الدار"، لكنها الأيام القاسية مرت تطوي الزمن والبشر. مات جدي فايز قبلان قبل عقد تقريبًا، ومؤشر الراديو العتيق ثابت على إشارة إذاعة العدو، التي كانت تبث أسماء أسرى حرب حزيران/يونيو ينتظر عودة شهيده عبد اللطيف، وبالرغم من عودة أحد رفاق خالي الشهيد من خندق الموت، وقطعه الأيمان أنّ رفيقه العسكري العشريني مات برشقة رشاش طيار إسرائيلي، إلا أن العجوز لم يصدق... مات والمؤشر يحلم ببيان بأسماء الأسرى.

خمسون عامًا مرت على حقول القمح في الجولان السوري وهي بانتظار عودة فلاحيها

اقرأ/ي أيضًا: من ذاكرة الهزيمة

قبله مات والدي الذي خرج بعد النزوح الكبير بأيام، وبأم عينه شاهد أكوام السلاح السوري الحديث مرميًا في خنادقه وسواتره، بعد أن هرب الجنود إلى الخط الثاني ببيان انسحاب، وماتت معه كل أحاديث الليل عن بلاد كالمستحيل، جبال ووديان وبحيرات للسباحة من فوهات البراكين (بحيرة مسعدة في الجولان)، وأغانٍ عن الحب والعودة والموت بمتر واحد في سهل قريته (جبب الميس)، ولكنه أيضًا مات في هجرتنا الجديدة ونزوحنا السوري الكبير الجديد.

مات أغلب العجائز الذين بنوا بيوت الإقامة المؤقتة في أرياف العاصمة ومدن الحنوب السوري على أمل العودة السريعة، قلة من بنت بيوتًا في مدن الشرق والغرب والوسط السوري، وهؤلاء أيضًا لم يفارقهم حلم العودة إلى الجولان على اعتبار أنها أرض مباركة خصبة ومغتصبة، ومطعونة.

خمسون عامًا مرت.. كبرنا نحن الذين ولدنا في العاصمة، شابت ذوائبنا، ومات بعضنا، وهرب كثيرون من الحرب الجديدة التي استعرت في البلاد الأم، وأما رسائل العودة التي حفظناها من جيل النزوح الأول فبقيت في صدور من غرقوا في البحر بحثًا عن نجاة أخرى، وبقيت في قلوب من سكنوا بلادهم الجديدة كلاجئين بوجوه فزعة من حرب تطاردهم هذه المرة... لكنها حرب الأهل.

أما الأبناء الذين سيولدون بعيدًا عن حدود حقول القمح فستكون لهم حكاياتهم المختلفة، عن آباء وأجداد ولدوا بأرض بعيدة غنية بالمطر والقمح، ونزحوا ثم هجّروا ثم هربوا في بلادهم أولًا، ثم في عواصم الجوار التي تتقن نفس اللغة والتاريخ، لكنها أيضًا لم تحتمل خيامهم الجديدة.

النازحون من الجولان عام 67 حملوا حلمًا أكبر من قاماتهم، وصدقوا خديعة الوطن

الأبناء سيروون حكايات أخرى عن نوايا السلمون بالعودة إلى مسقط رأسه ذات يوم، ربما لن يكون قريبًا لكنه سيكون، وأما نحن أصحاب الوصية الأولى فلقد هزمنا مرتين... في المرة الأولى حين حملنا حلمًا أكبر من قاماتنا، وصدقنا خديعة الوطن، والثانية حين فشلنا في البقاء على أقل تقدير في جوار القمح الذي لم تحصد مناجل الأجداد المخدوعين بالعودة بعد أيام.

اقرأ/ي أيضًا: النكسة.. هزيمتنا الممتدة فينا

سنبقى نروي - في أقصى مقاومتنا- قصة الرجل الجدّ الذي لم يصدق رواية الموت، وأغاني الرجل الأب عن الأغاني والحب والقمح الذي ينتظر مناجل الحصادين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عزمي بشارة في الذكرى الخمسين للنكسة.. مقاربة جديدة لهزيمة 1967

نكسة حزيران.. بدء حكم الطغاة وهزيمة الإنسان