31-ديسمبر-2019

غلاف كتاب سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها (فيسبوك)

"يبدو أن الشرع يحمل وعدًا كبيرًا؛ لأنه في الذاكرة الجماعية للعالم الإسلامي، لا يزال يذكَّر بشكل خافت بأن الدولة الإسلامية الكلاسيكية كانت دولة يحكمها الشرع وتَحكُم بواسطة الشرع".

هل تنجح الدولة الإسلامية الجديدة؟ إنه ما يحاول نوح فيلدمان الإجابة عنه عبر مخطوطه "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها" الصادرة ترجمته من الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2014

 

يقع في العالم نظاما حكم هما: الديمقراطي الذي تشكل أول مرة في مدينةٍ إغريقيةٍ قديمة، وعاد للبزوغ بعد ألفي عام بحمولة تنظيرية وبيئة مختلفة تمامًا و"لا يحمل من قديمه إلا الاسم فقط". والثاني الدولة الإسلامية التي تبلورت مع اكتمال الشريعة، ودُفِنَت بفعلِ فتوى فقهاء الأناضول حين قام علماني الشرق أتاتورك بحمل وثيقة شرعية تمنحه المشروعية في بناء الدولة التركية الحديثة. لتتكرر الحادثة نفسها في الشرق كما حدث سابقًا في الغرب، إذ برز تيار سياسي واسع يطالب ويدعو إلى استعادة الدولة الإسلامية بجوهرها الذي صنع مجد الدولة الإسلامية التقليدية. فهل تنجح الدولة الإسلامية الجديدة؟

اقرأ/ي أيضًا: 4 عناوين دسمة من إصدارات "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" لنهاية 2019

 

إنه ما يحاول نوح فيلدمان الإجابة عنه عبر مخطوطه "سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها" الصادرة ترجمته من الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2014، ويقع في 190 صفحة مقسمين إلى ثلاثة فصول بالإضافة إلى مقدمة الكتاب الأصلية ومقدمةٍ مطولة عن طبعة عام 2012، يستعرض فيها أحداث وخلاصات من ثورات الربيع العربي، من تونس -الثورة المجيدة- إلى ليبيا -فاقدة منطق الدولة- مرورًا بمصر -جمهورية الضباط- التي حاول تفكيك أزمتها من الجيش إلى جماعة الإخوان المسلمين، منتقلًا إلى سوريا (دولة إثبات الذات في النظام الدولي الجديد) التي ذكَر فيها ما يحتاج منا إلى توقف عنده دون إطلاق أحكام قبل التفكّر، قائلًا: "لو تمت تسوية مشكلات سوريا بنوع من الحل الديمقراطي الذي يزيح الأسد عن السلطة، فإن الجزائر والسودان فقط سيبقيان النظامين الديكتاتوريين الرئيسين في العالم العربي. وسيشكّل هذا تحولًا جذريًا للسياسة الإقليمية وخطوة حاسمة في طريق ظهور الدولة الإسلامية".

نوح فيلدمان: خريج جامعة أكسفورد في القانون والفكر الإسلامي وأستاذ قانون في جامعة هارفرد، كتب الدستور الأفغاني ومسودة الدستور العراقي ومستشار بول بريمر في حينه أي عندما كان في الثالثة والثلاثين من عمره (مواليد عام 1970). وقد عقب إدوار سعيد على هذا الحدث قائلًا: "إن إناطة مهمة كتابة الدستور العراقي لشاب تنقصه الخبرة هي إهانة لآلاف القانونيين العرب". (يمكن الاطلاع على مراجعة الباحث والمترجم أسامة غاوجي لذات الكتاب).

ولكن من الضروري التأكيد على أن محاولة نوح فيلدمان لا تقترب من المقاربة الحتمية لعمل وائل حلاق في "الدولة المستحيلة"، ذلك أن عمل الأخير هو مقاربة تتناول المعضلات الأخلاقية العميقة التي تطرحها الدولة الحديثة على أي مشروع للحكم الإسلامي، وأما عمل الأول شبيه بمرافعة دفاعية عن العلماء والدولة الإسلامية، ولا تحمل مقاربته استحالة إقامة الدولة الإسلامية في ظل بنى الدولة الحديثة.

العلماء

 يعتبر عمل فيلدمان محاولة كورنولوجية لتشكّل طبقة العلماء في الإسلام؛ ذلك أن الدولة الإسلامية لا تقوم دون طبقة علمائها بوصفهم حراس الشريعة ومفسريها، والطبقة التي تسمح بتوازن سُلطاتي مع الحكام الذين يطبقون الشريعة ويمارسون السلطة التنفيذية. وينطلق المؤلف من اللحظات الأولى لميلاد الشرع الإسلامي، وكيف نشأت الحاجة للعلماء بعد الخلفاء الأربعة الأوائل -الذين كانوا يعرفون النبي شخصيًا- إذ ظهر بعد مجتمع الصحابة مجموعة من الأشخاص يؤكدون أنهم –كجماعة- يمكنهم تأكيد الشرع من المصادر المتاحة. وهنا كان المفصل التاريخي لتشكل طبقة العلماء والتشريع في الإسلام إذ يقول فيلدمان إنه دائمًا توجد "لحظة في ميلاد أي نظام قانوني يجب فيها لأحد أن يؤكد بصورة أساسية أنه مخوًّل ليقول ما هو القانون. وكلما زاد العدد زاد الأمان". ويصف لنا الكاتب على أي أساس يكون العالم عالمًا وأنهم "أصبحوا علماءً عن طريق التعليم والوقار، وكان مركزهم تحدده السمعة التي كانوا يتمتعون بها بين زملائهم العلماء"، أي أنه لم يكن يرتبط بالحُكم على الإطلاق. ويؤكد فيلدمان على أن العلماء بسبب اضطلاعهم بجميع المواد الشرعية ذات الصلة وتفسيرها، فإنه يمكن وصفهم عن حق بـ"ورثة الأنبياء"، ويخرج القانون من تحت أيديهم من خلال سلطة تفسيرية جبارة وليس باختراع تام.

 ويطرح فيلدمان إشكالية العلماء والخلفاء والكيفية التي كانوا يتصرفون بها إزاء خليفة يسرق ويضطهد، أو إزاء خليفةٍ غير مؤهل للحكم وهو ما لم يكونوا يصرحون به نظرًا إلى أن "العلماء لم تكن لهم جيوش في متناول أيديهم"، ومع هذا مثَّلوا مصدر سلطة في البنية الدستورية الإسلامية، وحاول الباحث تكرار فكرة أن العلماء فاقدون للقوة الخشنة إلا أنهم أصحاب سطوة في الدولة، وهو وضع لم "يُسمع به من قبل في حوليات الإمبراطوريات الكبرى". وتحت سطوة الشرع هذه "ازدهرت الإمبراطورية العثمانية أطول مما فعلته أي من إمبراطوريات العالم الكبرى. وعندما حان أُفولها وكان هناك حاجة ماسة إلى الإصلاح؛ جعل ذلك الإصلاح الشرعَ هدفًا له".

أفول العلماء.. انهيار الدولة الإسلامية

يدرس نوح فيلدمان الأسباب التي دفعت الإمبراطورية العثمانية إلى التقنين الشامل للأحوال المدنية في الشريعة الإسلامية التي تعرف بـ "المجلة العدلية" بين عامي 1869-1876، وتقع في ستة عشر مجلدًا وضعها مجموعة من العلماء والخبراء، والتي كانت "تمثل شيئًا جديدًا في تاريخ الشريعة، وبحكم التقليد والمنطق كانت الشريعة مجموعة غير مقننة من النظريات القانونية والمبادئ والقيم والآراء". حتى إذا سأل إنسان في الحقبة الكلاسيكية للإسلام "أين الشرع؟" يمكن الرد عليه بالإشارة إلى العلماء قائلًا: "الشريعة معهم". وبعد المجلة يكون الرد "بالإشارة إلى التقنين نفسه، وليس إلى أولئك المكلفين بتطبيقه".

 بهذا الحدث الجلل في تاريخ الشريعة ترتب عليه: أ- ما كان بيد طبقة شبه مستقلة طيلة قرون انتقل اليوم إلى نطاق الدولة. ب- أن مجموعة الإصلاحات القانونية والدستورية أزاحت طبقة العلماء ودمرتها من دون ترك أي مؤسسة أو كيان اجتماعي يحقق التوازن مع السلطة التنفيذية مثلما كانت تفعل طبقة العلماء سابقًا. ج- "إن قدوم الدستور المكتوب في العالم المسلم كان علامة على بداية نهاية الدولة الإسلامية".

ولكن برأي الباحث تبقى السعودية الاستثناء في العالم الإسلامي، فقد حصل فيها الاتفاق بين ابن سعود وعبد الوهاب على شكل الدولة الوليدة. ويمكنني تلخيص الحاصل؛ بالحوار الذي دار بين الأمير والشيخ "قال الأمير: يا شيخ ما يكون لك قعود عندنا ولا مسكن، فأنا رجل متعوّد على أكل الحرام، وأنت عالم زاهد، هل عندك تفتينا؟! فقال له الشيخ: نعم، أنا أبقيك على ما أنت عليه من أكل الحرام، وأنت تتركني أسكن عندك وأقوّم الدين، فرضي ابن سعود بذلك". بحسب فيلدمان ما يجعل من السعودية استثناءً هو أنها لم تعتمد "منذ تشكُّلها إلى اليوم دستورًا مكتوبًا أبدًا. وهو وجهُ شبهٍ مع النظام الدستوري الإسلامي التقليدي الذي لم تكن فيه حاجة إلى دستور ليحدد أن السلطة الرسمية للدولة تُستمد من تطبيقها الشريعة كما يفسرها العلماء". لكن سلطة العلماء على حماية الشرع في السعودية تبقى أضعف بكثير مقارنة بالدولة الإسلامية التقليدية ويعتبرها فيلدمان "صورة في مرآة مشوهة؛ فكل العناصر المألوفة موجودة، إلا أن النفط غيّر حجمها وموضعها وعلاقتها المتبادلة وأثر فيها".

الإسلاميون.. والدولة الإسلامية

يستعرض المؤلف أيديولوجيا الحركات الإسلامية التي تسعى إلى الإمساك بزمام الدولة القائمة، ثم تحويل المجتمع من خلال برنامج مبادئ وقوانين قادرة على تنفيذها بمرسوم، من خلال تسليط الضوء على كتابات حسن البنا وسيد  قطب، وحاول الباحث أن يعرّفنا على موقع مفهوم العدالة (الاجتماعية، السياسية، القانونية) عند الإسلاميين، ويُظهر فيلدمان محاولات التيار الإسلامي إضفاء الطابع الديمقراطي على الشريعة. وكيف أن الناس إذا كانوا أمام صندوق انتخابات حر تكون فرصة نجاح الإسلاميين كبيرة، لكن حتى لو نجحوا؛ لا يُسمح لهم بالاستمرار. ويبدو أن فيلدمان حين تطرق لمستقبل الدولة الإسلامية كان يرمي إلى الحركات الإسلامية؛ أنكم إذا أردتم بناءَ دولةٍ إسلامية لن يُكتب لكم النجاح دون العودة إلى تشكيل طبقة العلماء لأنهم من يضلعون بالدور المركزي في إقامة سيادة الشرع والمحافظة عليه.

 وأخيرًا يدرس الباحث الحالة الإيرانية بإسهابٍ ويعرّفنا على قصة الدستور الإيراني من عام 1905 إلى الثورة الإسلامية عام 1979، محاولًا عقد مقارنة مع شقيقتها السنية التي كانت في لحظة من اللحظات أكثر تطورًا من الناحية الدستورية.

يذكرني تطرق نوح فيلدمان حول نجاح الإسلاميين الدائم في كسب القواعد الشعبية؛ بسؤال وجَّهَهُ السيد ولد أباه إلى المفكر المغربي محمد عابد الجابري حين تفرغ تمامًا لقضايا التراث في رباعيته "نقد العقل العربي" وغيره. سأله ولد أباه: مرجعيتك بالأصل ماركسية وتوجهك يساري، مالكَ وللتراثِ ومُشكِلاتهِ حتى دخلت فيها؟

يدرس نوح فيلدمان الأسباب التي دفعت الإمبراطورية العثمانية إلى التقنين الشامل للأحوال المدنية في الشريعة الإسلامية التي تعرف بـ "المجلة العدلية" بين عامي 1869-1876

فقال الجابري: نحن اليساريون كل مشكلاتنا مع الحكومات المستبدة لأجل الجماهير، نحارب نيابة عن الشعوب ونقدم التضحيات لأجلهم ولكن الحقيقة أن هذه الشعوب لا تعبأ بنا، هي مع الإسلاميين والسبب هو تجذر التراث في الوعي العربي، لذلك حاولت نقل المعركة إلى هناك، ولهذا ذهبتُ بمؤلفاتي المتأخرة إلى هذا الاتجاه...".

 

اقرأ/ي أيضًا:

4 كتب جديدة من إصدارات "المركز العربي"

4 كتب لا بدّ منها حول الحرية