مَحو اسم سعد الله نوس: هشاشة الذاكرة الرسمية مقابل قوة الذاكرة الشعبية
30 سبتمبر 2025
انتهت قضية تغيير اسم مدرسة المسرحي الراحل سعد الله ونوس (1941-1997)، كما تنتهي عادة قضايا الرأي العام في سوريا هذه الأيام؛ حيث يبدأ الخبر بالتداول على صفحات السوشيال ميديا ليصبح "ترند" الساعة، ثم يختفي سريعًا ليحلّ محله موضوعٌ آخر، دون أي موقف حكومي واضح ومُعلن. هذا المشهد يعكس واقعًا أصبح أكثر وضوحًا، وهو أن التباين في المواقف الرسمية يعكس انقساماتٍ داخل الدولة السورية، التي لا تمثل كيانًا متجانسًا بل خليطًا من تياراتٍ سياسية مختلفة تتفاعل وتتصادم فيما بينها. ما يفتح الباب أمام المزيد من القضايا المشابهة التي ستتأرجح بين الاهتمام والغياب، كما حدث مرارًا خلال حُكم السُلطات الجديدة.
ما حصل أن وزارة التربية والتعليم أعلنت اعتماد آلية جديدة لتغيير أسماء المدارس، تمحو أسماء الشخصيات والرموز التي تنتمي إلى عهد نظام بشار الأسد، وتعتمد معايير جديدة للاختيار تتماشى مع هدف "ترسيخ الهوية الوطنية" و"تعزيز ثقافة الانتماء"، لكن القرار شمل اسم مدرسة سعد الله ونوس للتعليم الأساسي في دمشق، رغم أن صاحب الاسم لم يرتبط بأي شكلٍ من الأشكال بالنظام السابق، عدا عن كونه رمزًا معروفًا بنقده الصريح والعميق للسلطوية والاستبداد. هذا التناقض كشف عن إشكاليةٍ عميقة في تحديد ماهية "النظام البائد"، ترتهن إليها معظم القرارات في مختلف مفاصل الدولة ومؤسساتها، وإن كان وصولها إلى شخصيةٍ بمكانة ونوس غير مُتوقع، إذ كان يكفي المعنيين إجراء بحثٍ سريع على "غوغل"، إذا لم يرغبوا ببذل جهدٍ في القراءة أو السؤال، للتعرّف عليه.
ومع أن الوزارة تراجعت عن القرار، مع تدخل وزير الثقافة محمد ياسين صالح، ونفيه تغيير اسم المدرسة بعد اتصال مع وزير التربية محمد عبد الرحمن تركو، لكن الحادثة، أثارت استهجانَ شرائح واسعة من السوريين، الذين وجدوا في الأمر ما هو أبعد من مجرد خطأ إداري عابر، إنما سوء فهم إيديولوجي عميق، إذ لا يمكن تبرير خطأ الوزارة التي كانت تسعى لمحو رموز "الماضي"، فاستهدفت رمزًا مستقلًا شكّل جوهر النقد لهذا الماضي، كما أن هذه المحاولة لطمس أحد أبرز رموز الثقافة السورية أظهرت هشاشة الذاكرة الرسمية في مواجهة قوة الذاكرة الشعبية التي لا يمكن محوها بقرار إداري، إضافة إلى تأكيدها قدرة المثقفين السوريين على تشكيل رأي عام وضغط على المؤسسات الرسمية، وعلى ما يبدو فالذاكرة الثقافية ساحة معركة حقيقية، يُحدَّد فيها من يسيطر على سردية التاريخ والهوية الوطنية.
في هذا السياق، تعالت أصوات النقّاد الذين وجدوا في القرار بداية لتحدٍ أكبر لفهم الثقافة والإبداع في سوريا. الناقد حسين صقور الفينيق، استعاد في حديثه لـ "ألترا صوت" دور ونوس في مسألة الوعي الجمعي، بدءًا من حصوله على منحة دراسية لنيل درجة الليسانس في الصحافة من كُلية الآداب جامعة القاهرة، ثم تأثره بالانفصال بين مصر وسوريا، والذي كتب على إثره أولى مسرحياته "الحياة أبدًا"، لتتوالى بعدها أعماله المسرحية التي تناولت قضايا السُلطة والقمع والحرية الفردية، مثل "الملك هو الملك" و"حفلة سمر من أجل خمسة حزيران" و"مغامرة رأس المملوك جابر"، واصفًا إياه بـ "الكاتب المسرحي الذي رفض الصمت، وواجه الظلم بالكلمة والموقف"، و"لم تكمن قيمة ونوس في كونه مؤسس المسرح السياسي العربي فحسب، بل في رمزية نصوصه الغنية بالدلالات، وقدرتها العميقة على طرح الأسئلة التي توقظ الوعي، فكانت مرايا عاكسة للقهر والظلم، تستفز التعاطف، وتمنح المتلقي قدرة أوسع على الفهم والمواجهة".
هذه المحاولة لطمس أحد أبرز رموز الثقافة السورية أظهرت هشاشة الذاكرة الرسمية في مواجهة قوة الذاكرة الشعبية التي لا يمكن محوها بقرار إداري
من هُنا، لخّص صقور الوضع "كان قرار إزالة اسمه عن إحدى مدارس دمشق صادمًا ومجحفًا، ولا يليق بقامة أدبية وفكرية بحجم ونوس. فالإبداع لا يُقاس بالانتماء السياسي، ولا يمكن لصاحب فكر إنساني أن يُتّهم بما يتناقض مع جوهر مشروعه الإبداعي. إن مثل هذا القرار يفتقر إلى الإحاطة المعرفية العميقة، ولا يراعي أثره وتداعياته على المجتمع والذاكرة الوطنية". مؤكدًا أن صُنع القرار، في مثل هذه القضايا، ينبغي أن ينطلق من وعي حقيقي بأهمية التشاركية، وبما يضمن مصلحة الوطن بعيدًا عن التفرد والاستئثار، فهما طريقان لا يؤديان إلا إلى التراجع والانقسام، وعلى حدّ تعبيره "نحن أحوج ما نكون إلى وعي جمعي يُعلي من قيمة الحوار، ويكرّم المبدعين، ويضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. فبينما يتم توقيع القرار من مسؤول، يجب أن يُصنع بروحٍ جماعية، نابعة من إرادة الشعب، ومن يقينه بأن لا مستقبل لأمة تنسى مبدعيها".
بدوره الكاتب منصور المنصور، وصف ما يجري في سوريا بـ "طاعون الثقافة" الذي يجتاح البلاد، فالقرار الذي مرّ كغيره، يستدعي التأمل. يقول: "لم يكن مسرح ونوس مجرد خشبة للعرض والفُرجة، بل كان ميدانًا للمساءلة ومرآة كاشفة لقُبح الواقع والموت البطيء. لم يكن هاجسه توفير العزاء، بل إيقاظ المتلقي عبر صدمة تُدمي لتُحيي، حتى أنه قالها يومًا، وهو يتكئ على المرض كمنبرٍ أخير (نحن محكومون بالأمل)، ولم تكن تلك عبارة للاستهلاك، بل خلاصة تجربة، ووصية لا تليق إلا بمن ذاق اليأس ورفض أن يستسلم له. كان الأمل عنده فعلًا وجوديًّا، لا شعورًا عابرًا، أملٌ يخرج من بين الضلوع، ومن الآلام ورماد الهزائم التي نعرفها، لا من أوهام النصر". مضيفًا "لم يحمل ونوس خطابًا سياسيًّا مباشرًا، لكنه عرّى السياسة أكثر مما فعل السياسيون. كان يعرف أن الطغاة لا يخافون الصراخ بقدر ما يخشون الابداع الذي يكشفهم ويعريهم".
وذهب المنصور إلى أن ونوس قدّم معانٍ جديدة لكل فعل تاريخي كُنا نظنه نصرًا وإذ به هزيمة، ففي "الملك هو الملك"، لم يكن يسخر من ملكٍ بعينه، بل من تلك الدائرة الجهنمية للسُلطة التي تغيّر أقنعتها ولا تتغيّر. وفي "الاغتصاب"، لم يكن الحديث فقط عن احتلال أرضٍ، بل عن احتلال الوعي، وتواطؤ الخوف، وخيانة الصمت. لافتًا إلى أن "ونوس لا يزال حاضرًا في كل نصٍ يُكتب بجرأةٍ، في كل مسرحية تُعرض لتسائل لا لتُرضي، في كل كاتبٍ يخاف أن يصمت أكثر مما يخاف أن يُحاكم".