28-يوليو-2017

ميرا منقارة في إحدى جولاتها (نظير حلواني)

من منا لا يحب مدينته أو أي مدينة أمضى فيها وقتًا فسكنته مثلما سكنها. علاقتنا مع المدن لا تبدو سهلة، فطالما انبرى كثر للوقوف في وجه ظلم وتهميش تتعرض له المدن الأحب إلى قلوبهم من خلال عملٍ يجدون فيه منفعة مدينة ما. كثر من الشعراء والكتاب قالوا في مدنهم الكثير من الشعر والنثر. وغيرهم ممن لديه الكثير ليقوم به.

تسعى ميرا منقارة من خلال الجولات التي تنظمها في طرابلس أن تكسر تابوه الخوف الذي عرفه الناس عن المدينة، وتحفزهم لزيارتها

ومنهم الشابة اللبنانية ميرا منقارة، التي دفعها شغفها بالتاريخ والتراث، وخوفها أن يمحي التهميش صدى مدينتها طرابلس. فعملت خلال سنوات على سفريات عبر الزمن تقتفي أثر التراث، وتفتح أبواب تاريخ المدينة على حاضرها. تروي ميرا منقارة لـ"الترا صوت" عن تجربتها في حب المدينة والخوف عليها، وتخبرنا عن تنقلاتها مع المهتمين ومحبيّ المدن بين آثار طرابلس وروحها القديمة.

اقرأ/ي أيضًا: بائع الليموناضة الأخير في طرابلس

عن فكرة المشروع تخبرنا ميرا منقارة: "أنا مرشدة سياحية، درست الإرشاد السياحي في الجامعة اللبنانية، وعندما تخرجت اشتغلت في مجالي لوقت قصير، ثم بدأت الاغتيالات والحرب مع إسرائيل. توقف على إثرها عملي حيث صار من الصعب المتابعة. ولكن عندما بدأت الحرب في سوريا، وحدثت على خلفيتها الاشتباكات في طرابلس بين جبل محسن وباب التبانة، سمعت ذات مرة في أن هناك قذيفة قد وقعت أمام جامع البرطاسي في طرابلس، هذا الجامع الذي يعود لأكثر من 800 عام، يومها قلت إذا صارت معجزة وتوقفت الاشتباكات سأخطط لجولة سياحية في مدينة طرابلس، وهذا ما حدث حقًا بعد إقرار الخطة الأمنية في شهر آذار/مارس من العام 2014".

وتضيف ميرا منقارة: "بعدها بشهر واحد قمت بالتخطيط للجولة ودعوت بعض الناس للانضمام لي. ولبى الدعوة 25 شخصًا من أصدقائي العرب والأجانب، الذين بدورهم أخبروا أشخاصًا آخرين. لقيت الجولة استحسان الكثيرين، كما وأسعدت أهل السوق القديم في طرابلس، الذين بادروا الزوار بعبارات الترحيب وقدموا لهم الضيافة، وهذا كان حافزًا لي للمتابعة، وقررت أن أعمل لمدينتي فهذا يسعدني، ومن جهة أخرى أقوم بكسر تابوه الخوف الذي عرفه الناس عن المدينة، وأقوم بتحفيزهم لزيارتها والتعرف على معالمها وتاريخها".

بين قلعة وجامع، مدرسة وخان، وبين الحمامات والأسواق تنتقل ميرا منقارة مع زوار المدينة الفضوليين والشغوفين للتعرف على وجه المدينة النضر والمختبئ بين الأقبية، والمغطى بالنقوش والرُنوك وغيرها من المعالم التاريخية والفنية. كل ذلك يضع "ابنة طرابلس البارة" أمام همٍ حقيقي وهو كسر الصورة النمطية التي حفظها أهل منطقة بلاد الشام عن أن لمدينة طرابلس صيتًا في الحرب، بينما ترى ميرا منقارة في مدينتها ما لم يره أحد من قبل، فأهل طرابلس أدرى بأن حمى الاقتتال التي اجتاحتها لابد أن تزول ولا بد للمدينة أن تحفظ إرثها ومعالمها وتعرف بها.

وهناك مساحة للحديث والمعاصر أيضًا في جولات ميرا منقارة من خلال معرض رشيد كرامي الدولي الشهير في طرابلس، والذي يكوّن وجه المدينة المعاصرة، لما فيه من نظم معمارية لا يمكن أن نراها في أي مكان من العالم العربي. ترشد ميرا منقارة السياح إلى هناك وتمضي بين قاعة المعارض والمسرح التجريبي والمكشوف إلى الجناح اللبناني بتقديم المعرض المعماري الذي أنشأه المعماري البرازيلي أوسكار نيماير عام 1975، والذي أنشأ بهدف التعرف على المنتجات وتبادلها وتعزيز دور التجارة في لبنان، وإنعاش الوضع الاقتصادي في مدينة طرابلس التي استهلك منها المعرض ما يزيد عن مليون متر مربع لإقامة هذا المشروع.

اقرأ/ي أيضًا: الفوتوغرافي نذير حلواني.. حين يكون هو المدينة

وتضيف ميرامنقارة: "طلب مني الكثير من الفنانين والمصورين الموجودين في مركز الفن المعاصر في بيروت، إقامة جولات في المعرض لأهميته وخصوصيته المعمارية، فرحت أبحث في أسرار المعرض والتقيت مع مهندسين عملوا مع نيماير. وهكذا بدأت التحضير لجولات المعرض، بعدها أضفت عليه الميناء القديم في طرابلس، وكنيسة مارجرجس التي تعود للقرن الثامن عشر وهي خليط من العمارة البيزنطية والإسلامية، وبدأت منها إخبار السياح وقاصدي المكان عن الفن البيزنطي والإسلامي والفرق بينهما. ولاحقًا أضفت محطة القطار إلى المعالم السياحية التي أقصدها في جولاتي".

وتكمل ميرا منقارة: "بعدها تابعت العمل وأضفت مناطق لبنانية أخرى للخطة، حاليًا أعمل في مدينة صور منذ ما يقارب العام، أخطط بنفسي للجولات، ولكن يعمل معي مرشدون آخرون. أختار المرشدين من مناطق يعرفون عنها ويحبونها، فالمرشدة التي تعمل معي في صور، تحب المدينة وكانت قد عملت فيها من قبل، ولاحقًا سأعمل في بعلبك مع مرشد بعلبكي يعرف مدينته جيدًا. من خلال العلاقة مع المدينة يمكننا أن نقدم أفضل صورة لمن لا يعرفها. فالفكرة الأساسية من جولاتي السياحية هي تحفيز الناس على زيارة مناطق يجدون صعوبة في الوصول إليها بسبب المواصلات أو لأسباب أخرى منها الخوف أو قلة المعرفة بالمدينة".  

الفكرة من جولات ميرا منقارة تحفيز الناس على زيارة مناطق يجدون صعوبة في الوصول إليها مهما كانت الأسباب

باتت ميرا منقارة وجهًا من وجوه مدينتها طرابلس، وواحدة من المرشدين المعروفين في لبنان، واستطاعت أن تبني شبكة علاقات من خلال تواجدها أيضًا في بيروت، مما ساعدها في الوصول لأكبر عدد من الناس ممن لديهم الفضول الكافي لمرافقتها حيث التاريخ والحكايات.

وعن ذلك تقول ميرا منقارة: "بدأ الناس، عرب وأجانب، يعرفون عن جولاتي السياحية من خلال شبكة علاقات وسلسلة من المعارف والمتابعين للجولات والمهتمين اللذين يخبرون بعضهم البعض، إلى جانب صفحة المشروع على فيسبوك، التي أزودها بأهم النشاطات والجولات التي أخطط لها بشكل دائم ودوري. ومؤخرًا صرت أطبع البوسترات والمنشورات وأوزعها في أنحاء المدينة بمساعدة الأصدقاء. إلى جانب التغطية الإعلامية من قبل وسائل إعلام لبنانية وعربية وأخرى ألمانية وفرنسية، نشرت تقارير عن المشروع".

منذ عام 2014 انطلقت جولات ميرا منقارة السياحية، ولا تزال مستمرة وتسعى الآن لتوسيعها وضم مدن لبنانية أخرى لجولات طرابلس، كبعلبك وهو مشروعها المستقبلي الذي تعمل عليه بتأنٍ. يستغرق التحضير للجولات بعض الوقت ولكن تفضل ميرا أن تكون جولاتها موسعة ودقيقة حول المكان الذي تريد أخذ السائحين إليه.

تحضر ميرا منقارة للجولة بنفسها، تعد الخطة اللوجستية للزيارة، تنظم مواعيد اللقاء والانطلاق والحافلة التي ستنقل الزوار إلى مكان الزيارة وتخطط لمواعيد الوصول وتحضر المعلومات التي تريد الإخبار عنها، كل هذا يستغرق الكثير من الوقت ولكنه يبقى عملًا ممتعًا كما وصفته، يحقق لها الكثير من المتعة ويفسح لها المجال لتحب مدينتها كما تريد، وتقدمها للزائرين بوجه آخر يطغى على سيرة الحرب التي همشتها لفترة طويلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"أنفوريني".. حين تمرّ اليونان من لبنان

قصر الأحلام في الضنية.. خرافة العمارة بلا أميرات