21-نوفمبر-2017

مظاهرة نسائية في تونس (وكالات)

انكشفت مؤخرًا مفارقة عميقة تطرح في العمق سؤال المشروع العربي. حيث ظهر، في الفترة الماضية، اختلاف جذري بمناسبة توجّهات رئيسي تونس وموريتانيا، حينما دعا الرئيس الأوّل للمساواة في الميراث وشكّل لجنة للغرض، فيما قدّم الرّئيس الثاني مشروع قانون يشدّد في عقوبة السّاب لله إلى القتل مباشرة دون المرور بمرحلة استتابة لمدّة ثلاثة أيّام كما كان ينصّ القانون الحالي، وذلك إضافة لتثبيت عقوبة القتل لتارك الصّلاة. هي مفارقة تكشف مدى التنافر والتضادّ في الخيارات التشريعية في الوطن العربي، وينكشف من ورائها وهن مشروع توحيد القوانين كجزء من مسار توطيد الروابط العربية نحو حلم الوحدة.

يقول عبد الرزاق السنهوري وهو أحد كبار المشرّعين الذين أنجبتهم البلاد العربية بأن فكرة توحيد القوانين العربية ضرورية لا غنى عنها

انتشرت في العقود الماضية عديد اللجان الفنيّة صلب الجامعة العربية لتوحيد القوانين وتم فعلًا مثلًا صياغة القانون العربي الموحّد للأحوال الشّخصية والذي اعتمده مجلس وزراء العدل العرب سنة 1988، غير أنه ظلّ حبيس الأدراج خاصة وأنّ السّياق السياسي حينها على ضوء الانقسام العربي زاد حدّة مع المواجهة العسكرية العربية المباشرة، ليكون الحديث وقتها عن توحيد القوانين من قبيل اللغو. ثمّ وكما مرضت ووهنت الجامعة العربية طيلة السنوات الماضية، ضعفت مبادرات توحيد القوانين معها، حيث كانت ولا زالت أجواء الانقسام والفرقة طاغية على المشهد العربي بما يصعب معها مناقشة مسألة في ظاهرها فنيّة وفي باطنها استراتيجية في العمق العربي.

اقرأ/ي أيضًا: مشروع قانون لحماية الأمنيين في تونس وتخوفات من دولة بوليسية جديدة

يقول عبد الرّزاق السنهوري وهو أحد كبار المشرّعين الذين أنجبتهم البلاد العربية وعرّاب عديد القوانين في أكثر من بلد عربي، بأن فكرة توحيد القوانين العربية هي ضرورية ولا غنى عنها، بيد أنه يستطرد بأن رغبة التوحيد سابقة لأوانها، وبأنه لا لزوم لصياغة قوانين متطابقة مستشهدًا، في إحدى حواراته، بالفوارق بين القوانين الفيدرالية وقوانين الولايات في الولايات المتحدة. وحقيقة لا يمكن طلب المطابقة الكاملة في القوانين بمختلف فروعها، حيث تختلف مثلًا المرجعيات الفقهية في مسائل الأحوال الشخصية، كما قد تختلف القوانين في مسائل التجارة والجباية بحسب الخيارات الاقتصادية لكل بلد، وهذا من المسلّم به، غير أن هذه التباينات المعترف بها لا تبرّر أولًا توقّف مسار تقريب الخيارات التشريعية في عديد الفروع القانونية ومنها توحيد القوانين على الأقل المنظمة للمسائل المشتركة مثلا التجارة العربية البينيّة، كما لا تبرّر ثانيًا، وهذا ما يهمّنا أساسًا اليوم، التضاد في الخيارات التشريعيّة العامّة، ومثاله التنافر بين مشروعي الرئيسين التونسي والموريتاني.

المسألة في جوهرها، في هذا الجانب، تتعلّق بالخيارات المجتمعية والحضارية، وبأي مشروع عربي نريد وأي إمكانية لصياغة مشروع جامع؟ يظهر العرب اليوم أشدّ اختلافًا وفُرقة من ذي قبل، وتظهر المسارات متباينة، ونقاط المقابلة أكثر من نقاط التقاطع. سلك كل بلد لوحده طريقه بعد تحرير الوطن العربي، عدا فلسطين، من المحتلّ العسكري، غير أنه كان الرّهان أن يكون الاجتماع في النّهاية في ظلّ وحدة جامعة. ولكن يتأكّد بعد عقود أن كل بلد سلك طريقًا يتباعد بمسافة شاسعة عن طريق البلد الآخر، وبين هذه المسافات يتباعد المشروع الجامع. استمرّ الاحتلال الثقافي، والارتهان الاقتصادي للقوى الاستعمارية، وانتهج كل نظام مساره في التّحديث القسري، وانقلب الحديث من المشروع العربي الموحّد إلى المشروع الوطني المجزّأ، وذهب كل بلد في مسألة الإصلاح الديني في مساره. وحينما نلقي نظرة اليوم على القوانين العربية بداية من الدّستور وصولًا للقوانين المنظمة لأحوال النّاس، يتأكّد بأننا أمام مشاريع سياسية واجتماعية وثقافية متضادّة وليس مجرّد مختلفة. ماذا بقي الآن من المشروع العربي الممكن؟

مثّلت الثورة العربية المجيدة التي اندلعت ذات كانون الأول/ديسمبر 2010 من تونس وانتشرت نحو بقية البلدان العربية دون استثناء، فمنها التي عرفت ثورات، ومنها التي عاشت انتفاضات، فيما احترصت البقيّة بعنوان الإصلاحات ومحاولات امتصاص المطالب السياسية والاجتماعية المشروعة، مثّلت الثّورة في كنهها إعادة إحياء للجامع العربي، فلم يكن من قبيل المصادفة أن تكون المطالب متقاربة إلى حدّ التطابق، وأن تصدح الجماهير بشعار "الشعب يريد اسقاط النظام" من المحيط إلى الخليج. هي دعوة لإسقاط النظام العربي الذي انغمس في شهوات الحكم باستبداد وفساد، وترك خلفه المشروع العربي الموعود.

أن تتزايد الصراعات العربية وأن تتنافر المشاريع السياسية هي نتيجة طبيعية على ضوء زلزال لا زالت ارتداداته مستمرّة

يعكس، في الأثناء، دستور تونس المشروع الدستوري العربي المطلوب في كل بلد عربي، خاصة فيما يتعلّق بالمبادئ العامّة وتنظيم الحقوق والحريّات، غير إن ما يهمّنا هو إشارة توطئته إلى "دعم الوحدة المغاربية باعتبارها خطوة نحو تحقيق الوحدة العربية"، وهو ما يؤكد التزام دستور الثورة في بلد الحدّ الأدنى بالمشروع العربي الجامع. ولكن يبقى السؤال دائمًا، أي مشروع نريد وكيف نصيغه؟

اقرأ/ي أيضًا: جديد موريتانيا.. القتل بدون استتابة لتارك الصلاة و"المنافق"!

يعيش الوطن العربي في هذه اللحظة الحضارية ارهاصاته، وأن تتزايد الصراعات العربية وأن تتنافر المشاريع السياسية وأن تتضاد الخيارات التشريعية، هي في الحقيقة نتيجة طبيعية على ضوء زلزال لا زالت ارتداداته مستمرّة. فالطريق لا يزال طويلًا واختصار المسافة بين مشروع تونس ومشروع موريتانيا ليس بالهيّن، ولكن لا غرو أنّه بعد معركة تأمين الثورة من أعداء الداخل والخارج، يمكن وضع لبنة لمشروع عظيم، مشروع الوحدة الذي ستبنيه الأجيال العربية القادمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

موريتانيا.. صراع الدولة والهوية

حرب التشريعات بين روسيا والولايات المتحدة.. ووسائل الإعلام هي الضحية